الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْوَهَّابُ } * { رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَأُولَـٰئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ } * { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } * { قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ }

ولما علم بذلك أن الراسخين أيقنوا أنه من عند الله المستلزم لأنه لا عوج فيه أخبر أنهم أقبلوا على التضرع إليه في أن يثبتهم بعد هدايته ثم أن يرحمهم ببيان ما أشكل عليهم بقوله ـ حاكياً عنهم وهو في الحقيقة تلقين منه لهم لطفاً بهم مقدماً ما ينبغي تقديمه من السؤال في تطهير القلب عما لا ينبغي على طلب تنويره بما ينبغي لأن إزالة المانع قبل إيجاد المقتضي عين الحكمة: { ربنا } أي المحسن إلينا { لا تزغ قلوبنا } أي عن الحق.

ولما كان صلاح القلب صلاح الجملة وفساده فسادها وكان ثبات الإنسان على سنن الاستقامة من غير عوج أصلاً مما لم يجر به سبحانه وتعالى عادته لغير المعصومين قال ـ نازعاً الجار مسنداً الفعل غلى ضمير الجملة: { بعد إذ هديتنا } إليه. وقال الحرالي: ففي إلاحة معناه أن هذا الابتهال واقع من أولي الألباب ليترقوا من محلهم من التذكر إلى ما هو أعلى وأبطن ـ انتهى. فلذلك قالوا: { وهب لنا من لدنك } أي أمرك الخاص بحضرتك القدسية، الباطن عن غير خواصك { رحمة } أي فضلاً ومنحة منك ابتداء من غير سبب منا، ونكرها تعظيماً بأن أيسر شيء منها يكفي الموهوب.

ولما لم يكن لغيره شيء أصلاً فكان كل عطاء من فضله قالوا ـ وقال الحرالي: ولما كان الأمر اللدني ليس مما في فطر الخلق وجبلاتهم وإقامة حكمتهم، وإنما هو موهبة من الله سبحانه وتعالى بحسب العناية ختم بقوله: { إنك أنت الوهاب * } وهي صيغة مبالغة من الوهب والهبة، وهي العطية سماحاً من غير قصد من الموهوب ـ انتهى.

ولما كان من المعلوم من أول ما فرغ السمع من الكتاب في الفاتحة وأول البقرة وأثنائها أن للناس يوماً يدانون فيه وصلوا بقولهم السابق قوله: { ربنا إنك جامع } قال الحرالي: من الجمع، وهو ضم ما شأنه الافتراق والتنافر لطفاً أو قهراً ـ انتهى. { الناس } أي كلهم { ليوم } أي يدانون فيه { لا ريب فيه } ثم عللوا نفي الريب بقولهم ـ عادلين عن الخطاب آتين بالاسم الأعظم لأن المقام للجلال ـ: { إن الله } أي المحيط بصفات الكمال { لا يخلف } ولما كان نفي الخلف في زمن الوعد ومكانه أبلغ من نفي خلافه نفسه عبر بالمفعال فقال: { الميعاد * } وقال الحرالي: هو مفعال من الوعد، وصيغ لمعنى تكرره ودوامه، والوعد العهد في الخير ـ انتهى. وكل ذلك تنبيهاً على أنه يجب التثبت في فهم الكتاب والإحجام عن مشكله خوفاً من الفضيحة يوم الجمع يوم يساقون إليه ويقفون بين يديه، فكأنه تعالى يقول للنصارى: هب أنه أشكل عليكم بعض أفعالي وأقوالي في الإنجيل فهلا فعلتم فعل الراسخين فنزهتموني عما لا يليق بجلالي من التناقض وغيره، ووكلتم أمر ذلك إليّ، وعولتم في فتح مغلقه عليّ خوفاً من يوم الدين؟ قال ابن الزبير: ثم لما بلغ الكلام إلى هنا ـ أي إلى آيه التصوير ـ كان كأنه قد قيل: فكيف طرأ عليهم ما طرأ مع وجود الكتب؟ أخبر تعالى بشأن الكتاب وأنه محكم ومتشابه، وكذا عيره من الكتب ـ والله سبحانه وتعالى أعلم، فحال أهل التوفيق تحكيم المحكم، وحال أهل الزيغ اتباع المتشابه والتعلق به، وهذا بيان لقوله:

السابقالتالي
2 3 4 5