الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ وَلَكِنَّ ٱللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } * { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } * { لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ ٱلأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } * { ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } * { ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ ٱلنَّارُ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِٱلْبَيِّنَاتِ وَبِٱلَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }

ولما كان مطلق المسارعة أعم مما بالعوض، وهو أعم مما بالرجوع، جاء نظم الآيات على ذاك؛ ولما كشفت هذه الوقعة جملة من المغيبات من أعظمها تمييز المخلص فعلاً أو قولاً من غيره، أخبر تعالى أن ذلك من أسرارها على وجه يشير إلى النعي على المنافقين بتأخيرهم أنفسهم بالرجوع وغيره فقال مشيراً بخطاب الأتباع إلى مزيد علمه صلى الله عليه وسلم وعلو درجته لديه وعظيم قربه منه سبحانه وتعالى: { ما كان الله } أي مع ما له من صفات الكمال.

ولما كان ترك التمييز غير محمود، عبر بفعل الوذر، وأظهر موضع الإضمار لإظهار شرف الوصف تعظيماً لأهله فقال: { ليذر المؤمنين } أي الثابتين في وصف الإيمان { على ما أنتم عليه } من الاختلاط بالمنافقين ومن قاربهم من الذين آمنوا على حال الإشكال للاقتناع بدعوى اللسان دليلاً على الإيمان { حتى يميز الخبيث من الطيب } بأن يفضح المبطل وإن طال ستره بتكاليف شاقة وأحوال شيديدة، لا يصبر عليها إلا المخلص من العباد، المخلصون في الاعتقاد { وما كان الله } لاختصاصه بعلم الغيب { ليطلعكم على الغيب } أي وهو الذي لم يبرز إلى عالم الشهادة بوجه لتعلموا به الذي في قلوبهم مع احتمال أن يكون الرجوع للعلة التي ذكروها في الظاهر والقول لشدة الأسف على إخوانهم { ولكن الله } أي الذي له الأمر كله { يجتبي } أي يختار اختياراً بليغاً { من رسله من يشاء } أي فيخبر على ألسنتهم بما يريد من المغيبات كما أخبر أنهم برجوعهم للكفر أقرب منهم للإيمان، وأنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. ولما تسبب عن هذا وجوب الإيمان به قال: { فأمنوا بالله } أي في عالم الغيب والشهادة، له الأسماء الحسنى { ورسله } في أنه أرسلهم وفي أنهم صادقون في كل ما يخبرون به عنه.

ولما كان التقدير: فإنكم إن لم تؤمنوا كان لكم ما تقدم من العذاب العظيم الأليم المهين، عطف عليه قوله: { وإن تؤمنوا } أي بالله ورسله { وتتقوا } أي بالمداومة على الإيمان, وما يقتضيه من العمل الصالح { فلكم أجر عظيم * } أي منه أنه لا يضركم كيد أعدائكم شيئاً كما تقدم وعدكم به.

ولما كان من جملة مباني السورة الإنفاق، وتقدم في غير آية مدح المتقين به وحثهم عليه، وتقدم أن الكفار سارعوا في الكفر: أبو سفيان بالإنفاق في سبيل الشيطان على من يخذل الصحابة، ونعيم أو عبد القيس بالسعي في ذلك. وكان المبادرون إلى الجهاد قد تضمن فعلهم السماح بما آتاهم الله من الأنفس والأموال، وكان الله سبحانه وتعالى قد أخبر لما لهم عنده من الحياة التي هي خير من حياتهم التي أذهبوها في حبه، والرزق الذي هو أفضل مما أنفقوا في سبيله، ذم الله سبحانه وتعالى الباخلين بالأنفس والأموال في سبيل الله فقال راداً الخطاب إليه صلى الله عليه وسلم لأنه أمكن لسروره وأوثق في إنجاز الوعد: { ولا تحسبن } أي أنت يا خير البرية - هذا على قراءة حمزة، وعند الباقين الفاعل الموصول في قوله: { الذين يبخلون } أي عن الحقوق الشرعية { بما آتاهم الله } أي بجلاله وعز كماله { من فضله } أي لا لاستحاقهم له ببخلهم { هو خيراً لهم } أي لتثمير المال بذلك { بل هو } أي البخل { شر لهم } لأنهم مع جعل الله البخل مَتلفة لأموالهم { سيطوقون } أي يفعل من يأمره بذلك كائناً من كان بغاية السهولة عليه { ما يخلوا به } أي يجعل لهم بوعد صادق لا خلف فيه بعد الإملاء لهم طوقاً بأن يجعله شجاعاً أي حية عظيمة مهولة، تلزم الإنسان منهم، محيطة بعنقه، تضربه في جانبي وجهه { يوم القيامة } لأن الله سبحانه وتعالى يرثه منهم بعد أن كان خوّلهم فيه، فيجعله بسبب ذلك التخويل عذاباً عليهم، روى البخاري رضي الله تعالى عنه في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

السابقالتالي
2 3 4