الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ ٱللَّهِ آنَآءَ ٱللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } * { يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـٰئِكَ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } * { وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلْمُتَّقِينَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } * { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَـٰكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }

ولما كان السياق ربما أفهم أنهم كلهم كذلك قال مستأنفاً نافياً لذلك: { ليسوا سوآء } أي في هذه الأفعال، يثني سبحانه وتعالى على من أقبل على الحق منهم وخلع الباطل ولم يراع سلفاً ولا خلفاً بعيداً ولا قريباً. ثم استأنف قوله بياناً لعدم استوائهم: { من أهل الكتاب } فـأظهر لئلا يتوهم عود الضمير على خصوص من حكم بتكفيرهم { أمة } أي جماعة يحق لها أن تؤم { قائمة } أي مستقيمة على ما أتاها به نبيها في الثبات على ما شرعه، متهيئة بالقيام للانتقال عنه عند مجيء الناسخ الذي بشر به ووصفه. غير زائغة بالإيمان ببعضه والكفر ببعضه. ثم ذكر الحامل على الاستقامة فقال: { يتلون } أي يتعابعون مستمرين { آيات الله } أي علامات ذي الجلال والإكرام المنزلة الباهرة التي لا لبس فيها { آناء الليل } أي ساعاته { وهم يسجدون * } أي يصلون في غاية الخضوع. ثم ذكر ما أثمر لهم التهجد فقال: { يؤمنون } وكرر الاسم الأعظم إشارة إلى استحضارهم لعظمته فقال: { بالله } أي الذي له من الجلال وتناهي الكمال ما حير العقول. وأتبعه اليوم الذي تظهر فيه عظمته كلها، لأنه الحامل على كل خير فقال: { واليوم الآخر } أي إيماناً يعرف أنه حق بتصديقهم له بالعمل الصالح بما يرد عليهم من المعارف التي ما لها من نفاد، فيتجدد تهجدهم فتثبت استقامتهم.

ولما وصفهم بالاستقامة في أنفسهم في أنفسهم وصفهم بأنهم يقوّمون غيرهم فقال: { ويأمرون بالمعروف } أي مجددين ذلك مستمرين عليه { وينهون عن المنكر } لذلك، ولما ذكر فعلهم للخير ذكر نشاطهم في جميع أنواعه فقال: { ويسارعون في الخيرات } ولما كان التقدير: فأولئك من المستقيمين، عطف عليه: { وأولئك } أي العالو الرتبة { من الصالحين * } إشارة إلى أن من لم يستقم لم يصلح لشيء، وأرشد السياق إلى أن التقدير: وأكثرهم ليسوا بهذه الصفات.

ولما كان التقدير: فما فعلوا من خير فهو بعين الله سبحانه وتعالى، يشكره لهم، عطف عليه قوله: { وما تفعلوا } أي أنتم { من خير } من إنفاق أو غيره { فلن تكفروه } بل هو مشكور لكم بسبب فعلكم، وبني للمجهول تأدباً معه سبحانه وتعالى، وليكون على طريق المتكبرين. وعطف على ما تقديره: فإن الله عليم بكل ما يفعله الفاعلون، قوله: { والله } أي المحيط بكل شيء { عليم بالمتقين * } من الفاعلين الذين كانت التقوى حاملة لهم على كل خير، فهو يثيبهم أعظم الثواب، ويغيرهم فهو يعاقبهم بما يريد من العقاب، هذا على قراءة الخطاب، وأما على قراءة الغيبة فأمرها واضح في نظمها بما قلته.

ولما رغبهم في الإنفاق بما يشمل كل خير وأخبرهم بأنه عالم بدقة وجله، وأخبر أن ذلك كان دأب إسرائيل عليه الصلاة والسلام على وجه أنتج أن بنيه كاذبون في ادعائهم أنهم على ملة جده إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ثم حذر منهم وختم ما ختمه بالمتقين بالترغيب في الخير بما اندرج فيه الإنفاق الذي قدم أول السورة أنه من صفة المتقين المستغفرين بالأسحار التي هي أشرف آناء الليل, وكان مما يمنع منه خوفُ الفقر والنزول عن حال الموسرين من الكفار المفاخرين بالإكثار المعيرين بالإقلال من المال والولد وقوفاً مع الحال الدنيوي، وكان قد أخبر أنه لا يقبل من أحد منهم في الآخرة ملء الأرض ذهباً، أعقب هذا بمثل ذلك على وجه أعم فقال - واصفاً أضداد من تقدم، نافياً ما يعتقدون من أن أعمالهم الصورية تنفعهم -: { إن الذين كفروا } أي بالله بالميل عن المنهج القويم وإن ادعوا الإيمان به نفاقاً أو غيره { لن تغني عنهم أموالهم } أي وإن كثرت { ولا أولادهم } وإن عظمت { من الله } أي الملك الذي لا كفوء له { شيئاً } أي من الإغناء تأكيداً لما قرر من عدم نصرة أهل الكتاب الذين حملهم على إيثار الكفر على الإيمان استجلاب الأموال والرئاسة على الأتباع على وجه يعم جميع الكفار - كما قال في أول السورة - سواءً.

السابقالتالي
2 3