الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } * { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ }

ولما كان الظلم وضع الشيء في غير محله، وكان وضع الشيء في موضع لا يمكن أن يقبله أظلم الظلم، كان فعلهم هذا الذي هو إنزال ما لا يعلم شيئاً ولا يقدر على شيء في منزلة من يعلم كل شيء ويقدر على كل مقدور أظلم الظلم، فكان التقدير: فمن أظلم منهم في ذلك، عطف عليه قوله: { ومن أظلم } أي أشد وضعاً للأشياء في غير مواضعها، لأنه لانور له بل هو في ظلام الجهل يخبط { ممن افترى } أي تعمد { على الله كذباً } أي أيّ كذب كان من الشرك وغيره كما كانوا يقولون إذا فعلوا فاحشة: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها { أو كذب بالحق } من هذا القرآن المعجز المبين، على لسان هذا الرسول الأمين الذي ما أخبر خبراً إلا طابقه الواقع { لما } أي حين { جاءه } من غير إمهال إلى أن ينظر ويتأمل فيما جاءه من الأمر الشديد الخطر.

ولما كان التقدير: لا أحد أظلم منه، بل هو أظلم الظالمين، فهو كافر ومأواه جهنم، وكان من المعلوم أنهم يقولون عناداً: ليس الأمر كذلك، قال إنكاراً عليهم، ولأن فعلهم فعل المنكر، وتقريراً لهم لأن همزة الإنكار إذا دخلت على النفي كانت للتقرير، عدّاً به بمنزلة ما لا نزاع فيه أصلاً: { أليس في جنهم مثوى } أي منزل وموضع إقامة وحبس له وقد ارتكب هذا الكفر العظيم - هكذا كان الأصل، ولكنه لقصد التعميم وتعليق الفعل بالوصف قال: { للكافرين* } أي الذين يغطون أنوار الحق الواضح، أو ليس هو من الكافرين؟ أي إن كلاًّ من المقدمتين صحيح لا إنكار فيه، ولا ينتظم إنكارهم إلا بإفساد إحديهما، أما كفره للمنعم بعد إنجائه من الهلاك حيث عبد غيره فلا يسع عاقلاً إنكاره، وأما كون جهنم تسعة بعد إخبار القادر به فلا يسع مقراً بالقدرة إنكاره، فالمقدمتان مما لا مطعن فيه عندهم، فأنتجتا أن مثواه جهنم، وصار القياس هكذا: عابد غير من أنجاه كافر، وكل كافر مثواه جهنم، فعابد غير من أنجاه مثواه جهنم.

ولما كان هذا كله في الذين فتنوا فلم يجاهدوا أنفسهم، كان المعنى: فالذين فتناهم فوجدوا كاذبين ضلوا فصاروا لا يعقلون ولا يعلمون، لكونهم لم يكونوا من المجاهدين، فعطف عليه قوله: { والذين جاهدوا } أي أوقعوا الجهاد بغاية جهدهم على ما دل عليه بالمفاعلة { فينا } أي بسبب حقنا ومراقبتنا خاصة بلزوم الطاعات من جهاد الكفار وغيرهم من كل ما ينبغي الجهاد فيه بالقول والفعل في الشدة والرخاء، ومخالفة الهوى عند هجوم الفتن، وشدائد المحن، مستحضرين لعظمتنا.

ولما كان الكفار ينكرون فلاحهم وكان المفلح والظافر في كل شيء هو المهتدي، قال معبراً بالسبب عن المسبب: { لنهدينهم } بما نجعل لهم من النور الذي لا يضل من صحبه، هداية يليق بعظمتنا { سبلنا } أي لا سبل غيرها، علماً وعملاً، ونكون معهم بلطفنا ومعونتنا، لأنهم أحسنوا المجاهدة فهنيئاً لمن قاتل في سبيل الله ولو فواق ناقة لهذه الآية وقوله تعالى

السابقالتالي
2