الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } * { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } * { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ } * { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَكْفُرُونَ }

ولما تبين بهذا الآيات أن الدنيا مبنية على الفناء والزوال، والقلعة والارتحال، وصح أن السرور بها في غير موضعه فلذلك قال تعالى مشيراً بعد سلب العقل عنهم إلى أنهم فيها كالبهائم يتهارجون: { وما هذه الحياة الدنيا } فحقرها بالإشارة ولفظ الدناءة مع الإشارة إلى أن الاعتراف بهذا الاسم كافٍ في الإلزام بالاعتراف بالأخرى.

ولما كان مقصود السورة الحث على الجهاد والنهي عن المنكر، وكان في معرض سلب العقل عنهم، قدم اللهو لأن الإعراض عنه يحسم مادة الشر فإنه الباعث عليه فقال: { إلا لهو } أي شيء يلهي عما ينفع { ولعب } يشتغل به صبيان العقول، وكل غافل وجهول، فإن اللهو كل شيء من شأنه أن يعجب النفس كالغناء والزينة من المال والنساء وغيره، فيحصل به فرح وزيادة سرور، فيكون سبباً للغفلة والذهول والنسيان والشغل عن استعمال العقل في اتباع ما ينجي في الآخرة فينشأ عنه ضلال - على ما أشارت إليه آية لقمانليشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله } [آية: 6] ومنه اللعب، وهو فعل ما يزيد النفس في دنياها سروراً كالرقص بعد السماع وينقضي بسرعة لأنه ضد الجد ومثل الهزل، وهو كل شيء سافل، وكل باطل يقصد به زيادة البسط والترويح والتمادي في قطع الزمان فيما يشتهي من غير تعب، واللعبة - بالضم: التمثال، وما يلعب به كالشطرنج، والأحمق يسخر به، ولعب لعباً: مرح، وفي الأمر والدين: استخف به.

ولما كانوا ينكرون الحياة بعد الموت، أخبر على سبيل التأكيد أنه لا حياة غيرها فقال: { وإن الدار الآخرة لهي } أي خاصة { الحيوان } أي الحياة التامة الباقية العامة الوافية نفسها من حيث أنه لا موت فيها ولا فناء لشيء من الأشياء، ولذلك اختير هذا البناء الدال على المبالغة، وحركته مشعرة بما في الحياة من مطلق الحركة والاضطراب، فلا انقضاء لشيء من لعبها ولا لهواها الذي لا يوافق ما في الدنيا إلا في الصورة فقط لا في المعنى، لأنه ليس فيها شيء سافل لا في الباعث ولا في المبعوث إليه، بل كان ذلك بالتسبيح والتقديس وما يترتب عليه من المعارف والبسط والترويح، والانشراح والأنس والتفريح.

ولما كانوا قد غلطوا في الدارين كلتيهما فأنزلوا كل واحدة منهما غير منزلتها، فعدوا الدنيا وجوداً دائماً على هذا الحالة والآخرة عدماً، لا وجود لها بوجه، قال: { لو كانوا } أي كوناً هو كالجبلة { يعلمون* } أي لهم علم ما لم يغلطوا في واحدة منهما فلم يركبوا مع إيثارهم للحياة وشدة نفرتهم من الموت، لا عتقادهم أن لا قيام بعده إلى الدنيا، مع أن أصلها عدم الحياة الذي هو الموتان.

ولما ختم هذه الآية بما أفهم أنهم لا يعلمون، والتي قبلها بأن أكثرهم لا يعقلون، سبب عن ذلك قوله: { فإذا } أي فتسبب عن عدم عقلهم المستلزم لعدم علمهم أنهم إذا { ركبوا } أي البحر { في الفلك } أي السفن { دعوا الله } أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء إذا أصابتهم مصيبة خافوا منها الهلاك { مخلصين } بالتوحيد { له الدين* } بالإعراض عن شركائهم بالقلب واللسان، لما هم له محققون أنه لا منجى عند تلك الشدائد غيره { فلما نجّاهم } أي الله سبحانه، موصلاً لهم { إلى البر إذا هم } أي حين الوصول إلى البر { يشركون* } فصح أنهم لا يعلمون، لأنهم لا يعقلون، حيث يقرون بعجز آلهتهم ويشركونها معه، ففي ذلك أعظم التهكم بهم؛ قال البغوي: قال عكرمة: كانوا إذا ركبوا البحر حملوا معهم الأصنام، فإذا اشتدت بهم الريح ألقوها في البحر وقالوا يا رب! يا رب.

السابقالتالي
2 3