ولما أبلغ في الإنذار، وحذر من الأمور الكبار، ولم يهمل الإشارة إلى الصغار، وكانت هذه الآيات في المتعنتين من الكفار، وكان قد كرر أن هذه المواعظ إنما هي للمؤمنين، قال مخاطباً لهم معرضاً عن سواهم إذا كانت أسماعهم لبليغ هذه المواعظ قد أصغت، وقلوبهم لجليل هذه الإنذارات قد استيقظت، التفاتاً على قراءة الجمهور إلى التلذيذ في المناجاة بالإفراد والإبعاد من مداخل التعنت: { يا عبادي } فشرفهم بالإضافة، ولكنه لما أشار بأداة البعد إلى أن فيهم من لم يرسخ، حقق ذلك بقوله: { الذين آمنوا } أي وإن كان الإيمان باللسان مع أدنى شعبة من القلب. ولما كان نزول هذه السورة بمكة، وكانوا بها مستخفين بالعبادة خوفاً من الكفار، وكانت الهجرة الأهل والأوطان شديدة، قال مؤكداً تنبيهاً على أن حال من ترك الهجرة حال من يظن أن الأرض ضيقة: { إن أرضي واسعة } أي في الذات والرزق وكل ما تريدون من الرفق، فإن لم تتمكنوا بسبب هؤلاء المعاندين الذين يفتنونكم في دينكم ويمنعونكم من الإخلاص إلي في أرضكم والاجتهاد في عبادتي حتى يصير الإيمان لكم وصفاً، فهاجروا إلى أرض تتمكنون فيها من ذلك. ولما كانت الإقامة بها قبل الفتح مؤدية إلى الفتنة، وكان المفتون ربما طاوع بلسانه، وكان ذلك وإن كان القلب مطمئناً بالإيمان في صورة الشرك قال: { فإياي } أي خاصة بالهجرة إلى أرض تأمنون فيها اعبدوا وتنبهوا { فاعبدون* } بسبب ما دبرت لكم من المصالح من توسيع الأرض وغيره، عبادة لا شرك فيها، لا باللسان ولا بغيره ولا استخفافاً بها ولا مراعاة لمخلوق في معصيته، ولا شيء يجر إليها بالهرب ممن يمنعكم من ذلك إلى من يعينكم عليه. ولما كانت الهجرة شديدة المرارة لأنها مرت في المعنى من حيث كونها مفارقة المألوف المحبوب من العشير والبلد والمال، وكان في الموت ذلك كله بزيادة، قال مؤكداً بذلك مذكراً به مرهباً من ترك الهجرة: { كل نفس ذائقة الموت } أي مفارقة كل ما ألفت حتى بدناً طالما لابسته، وآنسها وآنسته، فإن أطاعت ربها أنجت نفسها ولم تنقصها الطاعة في الأجل شيئاً، وإلا أوبقت نفسها ولم تزدها المعصية في الأجل شيئاً، فإذا قدر الإنسان أنه مات سهلت عليه الهجرة، فإنه إن لم يفارق بعض مألوفه بها فارق كل مألوفه بالموت، وما ذكر الموت في عسير إلا يسره، ولا يسير إلا عسره وكدره. ولما هوّن أمر الهجرة، حذر من رضي في دينه بنوع نقص لشيء من الأشياء حثاً على الاستعداد بغاية الجهد في التزود للمعاد فقال: { ثم إلينا } على عظمتنا، لا إلى غيرنا { ترجعون* } على أيسر وجه، فيجازي كلاً منكم بما عمل. ولما كان التقدير: فالذين آمنوا فلبسوا إيمانهم بنوع نقص لننقصنهم في جزائهم، والذين كفروا لنركسنهم في جهنم دركات تحت دركات فبئس مثوى الظالمين، ولكنه لما تقدم ذكر العذاب قريباً، وكان القصد هنا الترغيب في الإيمان كيفما كان، طواه ودل عليه بأن عطف عليه قوله: { والذين آمنوا وعملوا } أي تصديقاً لإيمانهم { الصالحات } أي كلها.