الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ } * { أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ ٱللَّهُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } * { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِىءُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلآخِرَةَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ } * { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } * { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَلِقَآئِهِ أُوْلَـٰئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

ولما كان التقدير: فإن تصدقوا فهو حظكم في الدنيا والآخرة، عطف عليه قوله: { وإن تكذبوا } والذي دلنا على هذا المحذوف هذه الواو العاطفة على غير معطوف معروف { فقد } أي فيكفيكم في الوعظ والتهديد معرفتكم بأنه { كذب أمم } في الأزمان الكائنة { من قبلكم } كثيرة، كعاد وثمود وقوم نوح وغيرهم، فجرى الأمر فيهم على سنن واحد لم يختلف قط في نجاة والمطيع للرسول وهلاك العاصي له، ولم يضر ذلك بالرسول شيئا وما ضروا به إلا أنفسهم { وما على الرسول } أن يقهركم على التصديق، بل ما عليه { إلا البلاغ المبين* } الموضح مع - ظهوره في نفسه - للأمر بحيث لا يبقى فيه شك، بإظهار المعجزة وإقامة الأدلة على الوحدانية.

ولما كان التقدير: ألم تروا إلى مصارعهم؟ واتساق الحال في أمرهم؟ فيكفيكم ذلك زاجراً، عطف عليه للدلالة على الرجوع إليه منكراً قوله: { أو لم يروا } بالخطاب في قراءة حمزة والكسائي وفي رواية عن أبي بكر عن عاصم جرياً على النسق السابق، وبالغيب للباقين، إعراضاً للإيذان بالغضب { كيف يبدئ الله } أي الذي له كل كمال { الخلق } أي يجدد إبداءه في كل لحظة، وهو بالضم من أبدأ، وقرىء بالفتح من بدأ، وهما معاً بمعنى الإنشاء من العدم؛ قال القزاز: أبدأت الشيء أبدئه إبداء - إذا أنشأته، والله المبدىء أي الذي بدأ الخلق، يقال: بدأهم وأبدأهم، وفي القاموس: بدأ الله الخلق: خلقهم كأبدأ. ورؤيتهم للإبداء موجودة في الحيوان للإبداء والإعادة في النبات، ولا فرق في الإعادة بين شيء وشيء فيكون قوله - { ثم يعيده } أي يجدد إعادته في كل لمحة - معطوفاً على { يبدئ } ولو لم يكن كذلك لكان عطفه عليه من حيث إن مشاهدة حال الابتداء جعلت مشاهدة لحال الإعادة من حيث إنه لا فرق، ولا حاجة حينئذ إلى تكلف عطفه على الجملة من أولها. ثم حقر أمره بالنسبة إلى عظيم قدرته، فقال ذاكراً نتيجة الأمر السابق: { إن ذلك } أي الإبداء والإعادة، وأكد لأجل إنكارهم { على الله يسير* } لأنه الجامع لكل كمال، المنزه عن كل شائبة نقص.

ولما ساق العزيزالجليل هذا الدليل، عما حاج به قومه الخليل، انتهزت الفرصة في إرشاد نبيه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام والتحية والإكرام، وذلك أنه لما استدل عليه السلام على الوحدانية المستلزمة للقدرة على المعاد بإبطال إلهية معبوداتهم المستلزم لإبطال كل ما شاكلها، فحصل الاستعداد للتصريح بأمر المعاد، فصرح به، كان ذلك فخراً عظيماً، ومفصلاً بيناً جسيماً، لإقامة الحجة على قريش وسائر العرب، فانتهزت فرصته واقتحمت لجته، كما هي عادة البلغاء، ودأب الفصحاء الحكماء، لأن ذلك كله إنما سيق تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ووعظاً لقومه فقيل: { قل } أي يا محمد لهؤلاء الذين تقيدوا بما تقلدوا من مذاهب آبائهم من غير شبهة على صحته أصلاً: قد ثبت أن هذا كلام الله لما ثبت من عجزكم عن معارضته، فثبت أن هذا الدليل كلام أبيكم إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأنتم مصرحون بتقليد الآباء غير متحاشين من معرته ولا أب لكم أعظم من إبراهيم عليه الصلاة و السلام، فإذا قلدتم من لا يفارقه في عبادة ما لا يضر ولا ينفع من غير شبهة أصلاً فقلدوا أباكم الأعظم في عبادة الله وحده لكونه أباكم، ولما أقام على ذلك من الأدلة التي لا مراء فيها قال: أو { سيروا } إن لم تقتدوا بأبيكم إبراهيم عليه السلام، وتتأملوا ما أقام من الدليل القاطع والبرهان الساطع { في الأرض } إن لم يكفكم النظر في أحوال بلادكم.

السابقالتالي
2 3