الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِٱلْعُصْبَةِ أُوْلِي ٱلْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ } * { وَٱبْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِي ٱلأَرْضِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ } * { قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ ٱلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ } * { فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا يٰلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } * { وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ٱلصَّابِرُونَ }

ولما دل على عجزهم في تلك الدار، وعلمهم أن المتصرف في جميع الأقدار، إنما هو الواحد القهار، دل على أن ذلك له أيضاً في هذه الدار وقوع العلم به بإهلاك أولي البطر، والمرح والأثر، من غير أن يغنوا عمن أضلوا، أو يغني عنهم من أضلهم من ناطق، وما أضلهم من صامت، تطبيقاً لعموم { وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها } على بعض الجزئيات، تخويفاً لمن كذب النبي صلى الله عليه وسلم، لا سيما من نسبه إلى السحر، وإعلاماً بأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يقاطعون الأشقياء وإن كانوا أقرب الأقرباء، لأنه سبحانه عذب قارون ومن كان معه بعذاب لم يسبقهم فيه أحد، وهم من بني إسرائيل ومن أقرب بني إسرائيل إلى موسى عليه الصلاة والسلام، فعلم كان من كان اغتر بما أوتيه أن الحق لله في كل ما دعت إليه رسله، ونطقت به كتبه، وضل عنهم ما كانوا يفتقرون، ولم يغن عنهم شيئاً ما اعتمدوا عليه، فكان معبودهم في الحقيقة مما جمعوه من حطام الدنيا فاعتدوا أنهم نالوا به السعادة الدائمة والعز الباقي، فكان مثله - كما يأتي في التي بعده - كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً، وكل ذلك بمرأى من موسى عليه الصلاة والسلام حين كذبه ونسبه إلى السحر وتكبر عليه، فلم يسأل الله تعالى فيه لخروجه باستكباره من الوعد بالمنة على الذين استضعفوا في الأرض، وكان ذلك العذاب الذي عذبوا به من جنس ما عذب به فرعون في الصورة من حيث إنه تغييب وإن كان ذلك في مائع، وهذا صلب جامد، ليعلم أنه قادر على ما يريد، ليدوم منه الحذر، فيما سبق منه القضاء والقدر، ونزع موسى عليه الصلاة والسلام من كل سبط من أسباط بني إسرائيل شهيداً من عصبهم وقال لهم: هاتوا برهانكم فيها، فعلموا بإبراق عصا هاورن عليه الصلاة والسلام دون عصيهم أن الحق لله في أمر الحبورة وفي جميع أمره فقال: { إن قارون } ويسمى في التوراة قورح، ثم بين سبب التأكيد بقوله: { كان } أي كوناً متمكناً { من قوم موسى } تنبيهاً على أنه جدير بأن ينكر كونه كذلك لأنه فعله معهم لا يكاد يفعله أحد مع قومه، وذلك أنه كان من الذين آمنوا به وقلنا فيهم { ونريد أن نمن على الذين } إلى آخره، لأنه ابن عم موسى عليه الصلاة والسلام على ما حكاه أبو حيان وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما { فبغى عليهم } أي تجاوز الحد في احتقارهم بما خولناه فيه من هذا الحطام المتلاشي، والعرض الفاني، فقطع ما بينه وبينهم من الوصلة، ووصل ما بينه وبين فرعون وأضرابه، من الفرقة، فأخرجه ذلك من حوزة المنة والأمانة والوراثة إلى دائرة الهلاك والحقارة والخيانة، كما بغى عليهم فرعون؛ وكان أصل " بغى " هذه: أراد، لكن لما كان العبد لا ينبغي أن يكون له إرادة، بل الإرادة لسيده كما نبه عليه { ما كان لهم الخيرة } ، جعلت إرادته تجاوز الحد، وعديت بـ " على " المقتضية للاستعلاء تنبيهاً على خروجها عن أصلها.

السابقالتالي
2 3 4