الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِيۤ آبَآئِنَا ٱلأَوَّلِينَ } * { وَقَالَ مُوسَىٰ رَبِّيۤ أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِٱلْهُدَىٰ مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ ٱلدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ } * { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يٰأَيُّهَا ٱلْملأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يٰهَامَانُ عَلَى ٱلطِّينِ فَٱجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّيۤ أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ } * { وَٱسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ }

ولما كان التقدير: فأتاهم كما أمر الله، وعاضده أخوه كما أخبر الله، ودعواهم إلى الله تعالى، وأظهرا ما أمرا به من الآيات، بنى قوله مبيناً بالفاء سرعة امتثاله: { فلما جاءهم } أي فرعون وقومه.

ولما كانت رسالة هارون عليه الصلاة والسلام إنما هي تأييد لموسى عليه الصلاة والسلام، أشار إلى ذلك بالتصريح باسم الجائي، فقال: { موسى بآياتنا } أي التي أمرناه بها، الدالة على جميع الآيات للتساوي في خرق العادة حال كونها { بينات } أي في غاية الوضوح { قالوا } أي فرعون وجنوده { ما هذا } أي الذي أظهره من الآيات { إلا سحر مفترى } أي هو خيال لا حقيقة له كجميع أنواع السحر، متعمداً التخييل به، لا أنه معجزة من عند الله { وما سمعنا بهذا } أي الذي تقوله من الرسالة عن الله { في آبائنا } وأشاروا إلى البدعة التي قد أضلت أكثر الخلق، وهي تحكيم عوائد التقليد، ولا سيما عند تقادمها على القواطع في قوله: { الأولين* } وقد كذبوا وافتروا لقد سمعوا بذلك في أيام يوسف عليه السلام " وما بالعهد من قدم " فقد قال لهم الذي آمنيا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب } [غافر: 34] - إلى قوله:ولقد جاءكم يوسف من قبله بالبينات } [غافر:34].

ولما أخبر تعالى بقولهم عطف عليه الإخبار بقول موسى عليه الصلاة والسلام ليوازن السامع بين الكلامين، ويتبصر بعقله ما الفاسد منهما " فبضدها تتبين الأشياء " هذا على قراءة الجماعة بالواو، واستأنف جواباً لمن كأنه سأل عن جوابه على قراءة ابن كثير بحذفها، فإن الموضع موضع بحث عما أجابهم به عند تسميتهم الآيات الباهرات سحراً، استعظاماً لذلك فقال: { وقال موسى } أي لما كذبوه وهم الكاذبون، مشيراً لذي البصر إلى طريق يميزون به الأمرين في سياق مهدد لهم: { ربي } أي المحسن إليّ بما ترون من تصديقي في كل ما ادعيته بإظهار ما لا تقدرون عليه على قوتكم من الخوارق، ومنع هذا الظالم العاتي المستكبر من الوصول إليّ بسوء { أعلم بمن جاء } بالضلال ظلماً وعدواناً، فيكون مخذولاً لكونه ساحراً فمحرقاً مفترياً على الله، ويكون له سوء الدار، وأعلم بحاله، ولكنه قال " بمن جاء " { بالهدى } أي الذي أذن الله فيه، وهو حق في نفسه { من عنده } ، تصويراً لحاله، وتشويقاً إلى أتباعه { ومن تكون له } لكونه منصوراً مؤيداً { عاقبة الدار } أي الراحة والسكن والاستقرار مع الأمن والطمأنينة والسرور والظفر بجميع المطالب في الحالة التي تكون آخر الحالات مني ومنكم، فيعلم أنه أتى بما يرضي الله وهي وإن كانت حقيقتها ما يتعقب الشيء من خير أو شر، لكنها لا يراد بها إلا ما يقصد للعاقل حتى تكون له، وأما عاقبة السوء فهي عليه لا له؛ ثم علل ذلك بما أجرى الله به عادته؛ فقال معلماً بأن المخذول هو الكاذب، إشارة إلى أنه الغالب لكون الله معه، مؤكداً لما استقر في الأنفس من أن التقوي لا يغلبه الضعيف { إنه لا يفلح } أي يظفر ويفوز { الظالمون* } أي الذين يمشون كما يمشي من هو في الظلام بغير دليل، فهم لا يضعون قدماً في موضع يثقون بأنه صالح للمشي فيه، لا تبعة فيه فستنظرون { ولتعلمن نبأه بعد حين } { وقال فرعون } جواباً لهذا الترغيب والترهيب بعد الإعذار، ببيان الآيات الكبار، قانعاً في مدافعة ما رأى أنه اجتذب قومه الأغمار الأغبياء عن الجهل من ظهور تلك الآيات البينات بأن يوقفهم عن الإيمان إلى وقت ما، وكذا كانت عادته كلما أظهر موسى عليه الصلاة والسلام برهاناً، لأن قومه في غاية الغباوة والعراقة في الميل إلى الباطل والنفرة من الحق وترجيح المظنة على المئنة: { يا أيها الملأ } أي الأشراف، معظماً لهم استجلاباً لقلوبهم { ما علمت لكم } وأعرق في النفي فقال: { من إله غيري } نفى علمه بذلك إظهاراً للنصفة، وأنه ما قصد غشهم، وذلك منه واضح في أنه قصد تشكيكهم، إشارة منه إلى أن انتقاء علمه بوجوده ما هو إلا لانتفاء وجوده بعد علمه بأن الحق مع موسى عليه الصلاة والسلام لأنه أنهى ما قدر عليه بعد رؤيتهم لباهر الآيات، وظاهر الدلالات؛ ثم زاد في إيقافهم عن المتابعة بأن سبب عن جهله قوله لوزيره معلماً له صنعة الآجر لأنه أول من عمله، مع أنه هذه العبارة أشبه بهمم الجبابرة من أن يقول: اصنع لي آجراً: { فأوقد لي } أضاف الإيقاد إليه إعلاماً بأنه لا بد منه { يا هامان } وهو وزيره { على الطين } أي المتخذ لبناً ليصير آجراً؛ ثم سبب عن الإيقاد قوله: { فاجعل لي } أي منه { صرحاً } أي بناء عالياً يتاخم السماء، قال الطبري: وكل بناء مسطح فهو صرح كالقصر، وقال الزجاج: كل بناء متسع مرتفع { لعلي أطلع } أي أتكلف الطلوع { إلى إله موسى } أي الذي يدعوا إليه، فإنه ليس في الأرض أحد بهذا الوصف الذي ذكره فأنا أطلبه في السماء موهماً لهم أنه مما يمكن الوصول إليه على تقدير صحة الدعوى بأنه موجود، وهو قاطع بخلاف ذلك، ولكنه يقصد المدافعة من وقت إلى وقت، لعلمه أن العادة جرت بأن أكثر الناس يظنون بالملوك القدرة على كل ما يقولونه؛ ثم زادهم شكاً بقوله، مؤكداً لأجل دفع ما استقر في الأنفس من صدق موسى عليه الصلاة والسلام: { وإني لأظنه } أي موسى { من الكاذبين* } أي دأبه ذلك، وقد كذب هو ولبس لعنة الله ووصف أصدق أهل ذلك الزمان بصفة العريقة في العدوان، وإن كان هذا الكلام منه على حقيقته فلا شيء أثبت شهادة على إفراط جهله وغباوته منه حيث ظن أنه يصل السماء؛ ثم علل على تقدير الوصول يقدر على الارتقاء على ظهرها، ثم على تقدير ذلك يقدر على منازعة بانيها وسامكها ومعليها.

السابقالتالي
2