الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } * { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } * { قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَآ أَنتُمَا وَمَنِ ٱتَّبَعَكُمَا ٱلْغَالِبُونَ }

ولما كان كأنه قيل: ما فعل بعد رؤية هذه الخوارق؟ قيل: ثبت، علماً منه بصعوبة المقام وخطر الأمر، فاشترط لنفسه حتى رضي، وتلك كانت عادته ثباتاً وحزماً، وحلماً وعلماً، ألا ترى إلى ما فعل معنا عليه السلام والتحية والإكرام من الخير ليلة الإسراء في السؤال في تخفيف الصلاة، ولذلك كله { قال رب } أي أيها المحسن إليّ { إني } أكده لأن إرسال الله سبحانه له فعل من لا يعتبر أن لهم عليه ترة، فذكر ذلك ليعلم وجه عدم اعتباره { قتلت منهم } أي آل فرعون { نفساً } وأنت تعلم ما خرجت إلا هارباً منهم من أجلها { فأخاف } إن باديتهم، بمثل ذلك { أن يقتلون* } لذنبي إليهم ووحدتي وغربتي وثقل لساني في إقامة الحجج.

ولما تسبب عن ذلك طلب الإعانة بشخص فيه كفاية وله عليه شفقة، وكان أخوه هارون أحق الناس بهذا الوصف، كان التقدير: فأرسل معي أخي هارون - إلى آخره، غير أنه قدم ذكره اهتماماً بشأنه فقال: { وأخي هارون } والظاهر أن واوه للحال من ضمير موسى عليه الصلاة والسلام، أو عاطفة على مقول القول، والمعنى أنه يخاف أن يفوت مقصود الرسالة إما بقتله أو لعدم بيانه، فاكتفى بالتلويح في الكفاية من الأول، لأنه لا طاقة لأحد غير الله بها، وصرح بما يكفي من الثاني، فكأن التقدير: إني أخاف أن يقتلون فيفوت المقصود، ولا يحمني من ذلك إلا أنت، وإن لساني فيه عقدة، وأخي - إلى آخره؛ وزاد في تعظيمه بضمير الفصل فقال: { هو أفصح مني لساناً } أي من جهة اللسان للعقدة التي كانت حصلت له من وضع الجمرة في فيه وهو طفل في كفالة فرعون { فأرسله } أي بسبب ذلك { معي ردءاً } أي معيناً، من ردأت فلاناً بكذا، أي جعلته له قوة وعاضداً، وردأت الحائط - إذا دعمته بخشب أو كبش يدفعه أن يسقط؛ وقراءة نافع بغير همز من الزيادة.

ولما كان له عليه من العطف والشفقة ما يقصر الوصف عنه، نبه على ذلك بإجابة السؤال بقوله: { يصدقني } أي بأن يلخص بفصاحته ما قتله وبينته، ويقيم الأدلة عليه حتى يصير كالشمس وضوحاً، فيكون - مع تصديقه لي بنفسه - سبباً في تصديق غيره لي؛ ورفعه عاصم وحمزة صفة لردءاً. ثم علل سؤاله هذا، وبين أنه هو المراد، لا أن يقول له: صدقت، فإن قوله لهذه اللفظة لا تعلق له بالفصاحة حتى يكون سبباً للسؤال فيه، بقوله مؤكداً لأجل أن من كان رسولاً عن الله لا يظن به أن يخاف: { إني أخاف أن يكذبون* }.

ولما كان ما رأى من الأفعال، وسمع من الأقوال، مقتضياً للأمن من أن يكذبوه، وكان عالماً بما هم عليه من القساوة والكبر، أشار إلى ذلك بالتأكيد، أي وإذا كذبوني عسرت عليّ المحاججة على ما هو عادة أهل الهمم عند تمالؤ الخصوم على العناد، والإرسال موجب لكلام كثير وحجاج طويل، وقريب من هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لما أمره الله تعالى بإنذار قومه

السابقالتالي
2 3