الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ ٱلَّذِي يُخْرِجُ ٱلْخَبْءَ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } * { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ } * { قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ } * { ٱذْهَب بِّكِتَابِي هَـٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَٱنْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ } * { قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } * { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } * { أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } * { قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَفْتُونِي فِيۤ أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ } * { قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَٱلأَمْرُ إِلَيْكِ فَٱنظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ }

ولما كان هذا الضلال عجباً في نفسه فضلاً عن أن يكون من قوم يجمعهم جامع ملك مبناه السياسة التي محطها العقل الذي هو نور الهداية، ودواء الغواية، علله بانتفاء أعظم مقرب إلى الله: السجود، تعظيماً له وتنويهاً به فقال: { ألا } أي لئن لا { يسجدوا } أي حصل لهم هذا العمى العظيم الذي استولى به عليهم الشيطان لانتفاء سجودهم، ويجوز أن يتعلق بالتزيين، أي زين لهم لئلا يسجدوا { لله } أي يعبدوا الذي له الكمال كله بالسجود الذي هو محل الإنس، ومحط القرب، ودارة المناجاة، وآية المعافاة، فإنهم لو سجدوا له سبحانه لاهتدوا، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ففات الشيطان ما يقصده منهم من الضلال، وعلى قراءة الكسائي وأبي جعفر بالتخفيف وإشباع فتح الياء يكون استئنافاً، بدىء بأداة الاستفتاح تنبيهاً لهم على عظم المقام لئلا يفوت الوعظ أحداً منهم بمصادفته غافلاً، ثم نادى لمثل ذلك وحذف المنادى إيذاناً بالاكتفاء بالإشارة لضيق الحال، خوفاً من المبادرة بالنكال عن استيفاء العبارة التي كان حقها:: ألا يا هؤلاء اسجدوا لله، أي لتخلصوا من أسر الشيطان، فإن السجود مرضاة للرحمن، ومجلاة للعرفان، ومجناة لتمام الهدى والإيمان.

ولما كانت القصة في بيان علمه سبحانه السابق لعلم الخلائق المستلزم للحكمة، وصفه بما يقتضي ذلك فقال: { الذي يخرج الخبء } وهوالشيء المخبوء بالفعل المخفي في غيره، وهو ما وجد وغيب عن الخلق كالماء الذي في بطن الأرض، أو بالقوة وهو ما لم يوجد أصلاً، وخصه بقوله: { في السماوات والأرض } لأن ذلك منتهى مشاهدتنا، فننظر ما يتكون فيهما بعد أن لم يكن من سحاب ومطر ونبات وتوابع ذلك من الرعد والبرق وغيرهما، وما يشرق من الكواكب ويغرب - إلى غير ذلك من الرياح، والبرد والحر، الحركة والسكون، والنطق والسكوت، وما لا يحصيه إلا الله تعالى، والمعنى أنه يخرج ما هو في عالم الغيب فيجعله في عالم الشهادة.

ولما كان ذلك قد يخص بما لم يضمر في القلوب كالماء الذي كان يخرجه الهدهد وكان ذلك قد يعرف بأمارات، وكان ما تضمره القلوب أخفى، قال: { ويعلم ما تخفون } ولما كان هذا مستزماً لعلم الجهر، وكان التصريح ما ليس لغيره من المكنة والطمأنينة، مع أن الإعلان ربما كان فيه من اللغط واختلاط الأصوات ما يمنع المستمع من العلم، قال: { وما تعلنون* } أي يظهرون.

ولما كان هذا الوصف موجباً لأن يعبد سبحانه وحده، صرح بما يقتضيه في قوله؛ { الله } أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له؛ ولما كان هذا إشارة إلى أنه لا سمي له، أتبعه التصريح بأنه لا كفوء له فقال: { لا إله إلا هو } ولما كان وصف عرشها بعظم ما، قال: { رب } أي مبدع ومدبر { العرش العظيم* } أي الكامل في العظم الذي لا عظيم يدانيه، وهو محتو على جميع الأكوان، وقد ثبت أن صاحبه أعظم منه ومن كل عظيم بآية الكرسي وبغيرها، فقطع ذلك لسان التعنت عند ذكره مع مزيد اقتضاء السياق له لأنه للانفراد بالإلهية المقتضية للقهر والكبر بخلاف آية المؤمنون، وهذه آية سجدة على كل القراءتين، لأن مواضع السجود إما مدح لمن أتى بها، أو ذم لمن تركها، كقراءة التشديد، أو أمر بالسجود كقراءة التخفيف، والكل ناظر إلى العظمة.

السابقالتالي
2 3