الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ } * { قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِيۤ أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } * { قَالَ رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } * { قَالَ لَئِنِ ٱتَّخَذْتَ إِلَـٰهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ ٱلْمَسْجُونِينَ } * { قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ } * { قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } * { فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } * { وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } * { قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ }

ولما وبخ اللعين في جوابه، وكان ربما ادعى أن الخافقين وما بينهما من الفضاء غير مخلوق، فتشوف السامع إلى جواب يلزمه، استأنف الشفاء لعيّ هذا السؤال بقوله: { قال } أي موسى، مخصصاً بعد ما عمم بشيء لا تمكن المنازعة فيه لمشاهدة وجود أفراده بعد أن لم تكن: { ربكم } أي الموجد لكم والمربي والمحسن { ورب آبائكم الأولين* } وفرعون - الذي تقرون بأنه ربكم - كان إذ ذاك عدماً محضاً، أو ماء صرفاً في ظهر أبيه، فبطل كون أحد منهم رباً لمن بعده كما بطل كون أحد ممن قبلهم من الهالكين ربّاً لهم، لأن الكل عدم.

فلما أوضح بذلك بطلان ما حملهم على اعتقاده من ربوبيته لم يتمالك أن { قال إن رسولكم } على طريق التهكم، إشارة إلى أن الرسول ينبغي أن يكون أعقل الناس، ثم زاد الأمر وضوحاً بقوله: { الذي أرسل إليكم } أي وأنتم أعقل الناس { لمجنون } حيث لا يفهم أني أساله عن حقيقة مرسله فكف يصلح للرسالة من الملوك.

فلما أساء الأدب، فاشتد تشوف السامع إلى معرفة جوابه عنه، استأنف تعالى الإخبار بذلك، فحكى أنه ذكر له ما لا يمكنه أن يدعي طاعته له، وهو أكثر تغيراً وأعجب تنقلاً بأن { قال رب المشرق والمغرب } أي الشروق والغروب ووقتهما وموضعهما { وما بينهما } أي من الناس الذين ليسوا في طاعتكم، والحيوان والجماد، بسبب ما ترون من قدرته على تقليب النيرات من بزوغ الشمس والقمر والنجوم وأفولها وما يظهر عنهما من الليل والنهار على تصاريف مختلفة، وحركات متقاربة لو لا هي لما علمتم شيئاً من أموركم، ولا تمكنتم من أحوالكم، وهذا الدليل أبين الكل لتكرر الحركة فيه وغير ذلك من معالمه، ولذلك بهت نمرود لما ألقاه عليه الخليل عليه الصلاة والسلام.

ولما دعاه صلى الله عليه وسلم باللين فأساء الأدب عليه في الجواب الماضي، ختم هذا البرهان بقوله: { إن كنتم تعقلون } أي فأنتم تعلمون ذلك، فخيرهم بين الإقرار بالجنون أو العقل، بما أشار إليه من الأدلة في مقابلة ما نسبوه إليه من الجنون بسكوتهم وقول عظيمهم بغير شبهة، رداً لهم عن الضلالة، وإنقاذاً من واضح الجهالة، فكان قوله أنكأ مع أنه ألطف، وأوضح مع أنه أستر وأشرف.

فلما علم أنه قد قطعه بما أوضح من الأمر، ووصل معه في الغلظة إلى ما إن سكت عنه أوهن من حاله، وفتر من عزائم رجاله، تكلم بما السكوت أولى منه، فأخبر تعالى بقوله: { قال } عادلاً عن الحجاج بعد الخوض فيه إلى المغالبة التي هي أبين علامات الانقطاع: { لئن اتخذت إلهاً غيري } أي تعمدت أخذه وأفردته بتوجيه جميع قصدك إليه { لأجعلنك من المسجونين } أي واحداً ممن هم في سجوني على ما تعلم من حالي في اقتداري، ومن سجوني في فظاعتها، ومن حال من فيها من شدة الحصر، والغلظ في الحجر { قال } مدافعاً بالتي هي أحسن إرخاء للعنان، لإرادة البيان، حتى لا يبقى عذر لإنسان، رجاء النزوع عن الطغيان، والرجوع إلى الإيمان، لأن من العادة الجارية السكون إلى الإنصاف، والرجوع إلى الحق والاعتراف { أولو } أي أتسجنني ولو { جئتك بشيء مبين* } أي لرسالتي { قال } طمعاً في أن يجد موضعاً للتكذيب أو التلبيس: { فأت به } أي تسبب عن قولك هذا أني أقول لك: ائت بذلك الشيء { إن كنت } أي كوناً أنت راسخ فيه { من الصادقين* } أي فيما ادعيت من الرسالة والبينة، وهذا إشارة إلى أنه بكلامه المتقدم قد صار عنده في غير عدادهم، ولزم عليه أنه لا يأتي بالمعجزة إلا الصادق لأنها تصديق من الله للمدعي، وعادته سبحانه وتعالى جارية في أنه لا يصدق الكاذب { فألقى } أي فتسبب عن ذلك وتعقبه أن ألقى.

السابقالتالي
2