الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } * { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } * { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } * { وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } * { إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً }

ولما ذكر الآيتين، ذكر ما هما آيتاه فقال: { وهو الذي جعل الليل } أي الذي آيته القمر { والنهار } الذي آيته الشمس { خلفة } أي ذوي حالة معروفة في الاختلاف، فيأتي هذا خلف ذاك، بضد ما له من الأوصاف، ويقوم مقامه في كثير من المرادات، والأشياء المقدرات، ويعلم قد التسامح فيها، ومن فاته شيء من هذا قضاه في ذاك؛ قال ابن جرير: والعرب تقول: خلف هذا من كذا خلفة، وذلك إذا جاء شيء مكان شيء ذهب قبله. وفي القاموس أن الخلف والخلفة - بالكسر: المختلف. فعلى هذا يكون التقدير: جعلهما مختلفين في النور والظلام، والحر والبرد، غير ذلك من الأحكام. وقال الرازي في اللوامع: يقال: الأمر بينهم خلفة، أي نوبة، كل واحد يخلف صاحبه، والقوم خلفة، أي مختلفون.

ولما كان الذي لا ينتفع بالشيء كالعادم لذلك الشيء، خص الجعل بالمجتني للثمرة فقال: { لمن أراد أن يذكر } أي يحصل له تذكر ولو على أدنى الوجوه - بما دل عليه الإدغام في قراءة الجماهة بفتح الذال والكاف مشددتين، لما يدله عليه عقله من أن التغير على هذه الهيئة العظيمة لا يكون بدون مغير قادر عظيم القدرة مختار، فيؤديه تذكره إلى الإيمان إن كان كفوراً، وقراءة حمزة بالتخفيف من الذكر تشير إلى أن ما يدلان عليه من تمام القدرة وشمول العلم الدال قطعاً على الوحدانية على غاية من الظهور، لا يحتاج إلى فكر، بل تحصل بأدنى التفات { أو أراد شكوراً* } أي شكراً بليغاً عظيماً لنعم الله لتحمله إرادته تلك على الشكر إن كان مؤمناً، بسبب ما أنعم به ربه من الإتيان بكل منهما بعد هجوم الآخر لاجتناء ثمراته، ولو جعل أحدهما دائماً لفاتت مصالح الآخرة، ولحصلت السآمة به، والملل منه، والتواني في الأمور المقدرة بالأوقات، الكسل وفتر العزم الذي إنما يثيره لتداركها دخول وقت آخر، وغير ذلك من الأمور التي أحكمها العلي الكبير.

ولما ذكر عباده الذين خذلهم بتسليط الشيطان عليهم فصاروا حزب الشيطان، ولم يصفهم إلى اسم من أسمائه، إيذاناً بإهانتهم لهوائهم عنده، وهم الذين صرح بهم قوله أول السورة { نذيراً } وختم بالتذكر والشكر إشارة إلى عباده الذين أخلصهم لنفسه، وأشار إليهم سابقاً بتخصيص الوصف بالفرقان، فأتبع ذلك ذكرهم، فقال عاطفاً على جملة الكلام في قوله { وإذا قيل لهم } لكنه رفعهم بالابتداء تشريفاً لهم: { وعباد } ويجوز أن يقال ولعله أحسن: أنه سبحانه لما وصف الكفار في هذه السورة بما وصفهم به من الفظاظة والغلظة على النبي صلى الله عليه وسلم، وعداوتهم له، ومظاهرتهم على خالقهم، ونحو ذلك من جلافتهم، وختم بالتذكر والشكر، وكان التقدير: فعباد الشيطان لا يتذكرون ولا يشكرون، لما لهم من القسوة، عطف على هذا المقدر أضدادهم، واصفاً لهم بأضداد أوصافهم، مبشراً لهم بضد جزائهم، فقال: وعباد { الرحمن } فأضافهم إليه رفعة لهم وإن كان كل الخلق عباده، وأضافهم إلى صفة وصف الرحمة الأبلغ الذي أنكره أولئك تبشيراً لهم؛ ثم وصفهم بضد ما وصف به المتكبرين عن السجود، إشارة إلى أنهم تخلقوا من هذه الصفة التي أضيفوا إليها بأمر كبير، فقال: { الذين يمشون } وقال: { على الأرض } تذكيراً بما هم منه وما يصيرون إليه، وحثاً على السعي في معالي الأخلاق للترقي عنه، وعبر عن حالهم بالمصدر مبالغة في اتصافهم بمدلوله حتى كانوا إياه، فقال: { هوناً } أي ذوي هون، أي لين ورفق وسكينة ووقار وإخبات وتواضع، لا يؤذون أحداً ولا يفخرون، رحمة لأنفسهم وغيرهم، غير متابعين ما هم فيه من الحرارة الشيطانية، فبرؤوا من حظوظ الشيطان، لأن من كان من الأرض وإليها يعود لا يليق به إلا ذلك، والأحسن أن يجعل هذا خبر " العباد " ، ويكون

السابقالتالي
2 3