الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيلَ لِبَاساً وَٱلنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ ٱلنَّهَارَ نُشُوراً } * { وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ ٱلرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً } * { لِّنُحْيِـيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً } * { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً }

ولما تضمنت هذه الآية الليل النهار، قال مصرحاً بهما دليلاً على الحق، وإظهاراً للنعمة على الخلق: { وهو } أي ربك وحده { الذي جعل } ولما كان ما مضى في الظل أمراً دقيقاً فخص به أهله، وكان أمر الليل والنهار ظاهراً لكل أحد، عم فقال: { لكم الليل } أي الذي تكامل به مد الظل { لباساً } أي ساتراً للأشياء عن الأبصار كما يستر اللباس { والنوم سباتاً } أي نوماً وسكوناً وراحة، عبارة عن كونه موتاً أصغر طاوياً لما كان من الإحساس، قطعاً عما كان من الشعور والتقلب، دليلاً لأهل البصائر على الموت؛ قال البغوي وغيره: وأصل السبت القطع. وفي جعله سبحانه كذلك من الفوائد الدينية والدنيوية ما لا يعد، وكذا قوله: { وجعل النهار نشوراً* } أي حياة وحركة وتقلباً بما أوجد فيه من اليقظة المذكرة بالبعث، المهيئة للتقلب، برد ما أعدمه النوم من جميع الحواس؛ يحكى أن لقمان قال لابنه: كما تنام فتوقظ فكذلك تموت فتنشر. فالآية من الاحتباك: ذكر السبات أولاً دليلاً على الحركة ثانياً، والنشور ثانياً دليلاً على الطيّ والسكون أولاً.

ولما دل على عظمته بتصرفه في المعاني بالإيجاد والإعدام، وختمه بالإماتة والإحياء بأسباب قريبة، أتبعه التصرف في الأعيان بمثل ذلك، دالاًّ على الإماتة والإحياء بأسباب بعيدة، وبدأه بما هو قريب للطافته من المعاني، وفيه النشر الذي ختم به ما قبله، فقال: { وهو } أي وحده { الذي أرسل الرياح } فقراءة ابن كثير بالإفراد لإرادة الجنس، وقراءة غيره بالجمع أدل على الاختيار بكونها تارة صباً وأخرى دبوراً، ومرة شمالاً وكرة جنوباً وغير ذلك { بشراً } أي تبعث بأرواحها السحاب، كما نشر بالنهار أرواح الأشباح { بين يدي رحمته } لعباده بالمطر.

ولما كان السحاب قريباً من الريح في اللطافة، والماء قريباً منهما ومسبباً عما تحمله الريح من السحاب، أتبعهما به، ولما كان في إنزاله من الدلالة على العظمة بإيجاده هنالك وإمساكه ثم إنزاله في الوقت المراد والمكان المختار على حسب الحاجة ما لا يخفى، غير الأسلوب مظهراً للعظمة فقال: { وأنزلنا من السماء } أي حيث لا ممسك للماء فيه غيره سبحانه { ماء } ثم أبدل منه بياناً للنعمة به فقال: { طهوراً* } أي طاهراً في نفسه مطهراً لغيره، اسم آلة كالسحور والسنون لما يتسحر به ويستن به، ونقل أبو حيان عن سيبويه أنه مصدر لتطهّر المضاعف جرى على غير فعله. وأما جعله مبالغة لطاهر فلا يفيد غير أنه بليغ الطهارة في نفسه لأن فعله قاصر.

ولما كانت هذه الأفعال دالة على البعث لكن بنوع خفاء، أتبعها ثمرة هذا الفعل دليلاً واضحاً على ذلك، فقال معبراً بالإحياء لذلك، معللاً للطهور المراد به البعد عن جميع ما يدنسه من ملوحة أو مرارة أو كبرتة ونحو ذلك مما يمنع كمال الانتفاع به: { لنحيي به } أي بالماء.

السابقالتالي
2 3