الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِيۤ أُمْطِرَتْ مَطَرَ ٱلسَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً } * { وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَـٰذَا ٱلَّذِي بَعَثَ ٱللَّهُ رَسُولاً } * { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً } * { أَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً } * { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً }

ولما ذكر الإهلاك بالماء وبغيره، وكان الإهلاك بالماء تارة بالبحر، وتارة بالإمطار، وختم بالخسف، ذكر الخسف الناشىء عن الأمطار، بحجارة النار، مع الغمر بالماء، دلالة على تمام القدرة، وباهر العظمة، وتذكيراً بما يرونه كل قليل في سفرهم إلى الأرض المقدسة لمتجرهم، وافتتح القصة باللام المؤذنة بعظيم الاهتمام، مقرونة بحرف التحقيق، إشارة إلى أنهم لعدم الانتفاع بالآيات كالمنكرين للمحسوسات، وغير الأسلوب تنبيهاً على عظيم الشأن وهزاً للسامع فقال: { ولقد أتوا } أي هؤلاء المكذبون من قومك، وقال: { على القرية } - وإن كانت مدائن سبعاً أو خمساً كما قيل - تحقيراً لشأنها في جنب قدرته سبحانه، وإهانة لمن يريد عذابه، ودلالة على جمع الفاحشة لهم حتى كانوا كأنهم شيء واحد كما دل عليه التعبير بمادة " قرا " الدالة على الجمع { التي أمطرت } أي وقع إمطارها ممن لا يقدر على الإمطار سواه بالحجارة، ولذا قال: { مطر السوء } وهي قرى قوم لوط، ثم خسف بها وغمرت بما ليس في الأرض مثله في أنواع الخبث؛ قال البغوي: كانت خمس قرى فأهلك الله أربعاً منها ونجت واحدة وهي أصغرها، وكان أهلها لا يعملون العمل الخبيث.

ولما كانوا يمرون عليها في أسفارهم، وكان من حقهم أن أن يتعظوا بحالهم، فيرجعوا عن ضلالهم، تسبب عن ذلك استحقاقهم للإنكار الشديد في قوله: { أفلم يكونوا } أي بما في جبلاتهم من الأخلاق العالية { يرونها } أي في أسفارهم إلى الشام ليعتبروا بما حل بأهلها من عذاب الله فيتوبوا.

ولما كان التقدير: بل رأوها، أضرب عنه بقوله: { بل } أي لم يكن تكذيبهم بسبب عدم رؤيتها وعدم علمهم بما حل بأهلها، بل بسبب أنهم { كانوا } يكذبون بالقيامة كأنه لهم طبع.

ولما كان عود الإنسان إلى ما كان من صحته محبوباً له، كان ينبغي لهم لو عقلوا أن يعلقوا رجاءهم بالبعث لأنه لا رجوع إلى الحياة، فهو كرجوع المريض لا سيما المدنف إلى الصحة، فلذلك قال معبراً بالرجاء تنبيهاً على هذا: { لا يرجون نشوراً* } بعد الموت ليخافوا الله عز وجل فيخلصوا له فيجازيهم على ذلك، لأنه استقر في أنفسهم اعتقادهم التكذيب بالآخرة، واستمروا عليه قرناً بعد قرن حتى تمكن تمكناً لا ينفع معه الاعتبار إلا لمن شاء الله.

ولما أثبت تكذيبهم بالآخرة، عطف عليه تحقيقاً قوله، مبيناً أنهم لم يقتصروا على التكذيب بالممكن المحبوب حتى ضموا إليه الاستهزاء بمن لا يمكن أصلاً في العادة أن يكون موضعاً للهزء: { وإذا رأوك } أي مع ما يعلمون من صدق حديثك وكرم أفعالك لو لم تأتهم بمعجزة، فكيف وقد أتيتهم بما بهر العقول { إن } أي ما { يتخذونك إلا هزواً } عبر بالمصدر إشارة إلى مبالغتهم في الاستهزاء مع شدة بعده صلى الله عليه وسلم عن ذلك، يقولون محتقرين: { أهذا } وتهكموا مع الإنكار في قولهم { الذي بعث الله } أي المستجمع لنعوت العظمة { رسولاً* } فإخراجهم الكلام في معرض التسليم والإقرار - وهو في غاية الجحود - بالغ الذروة من الاستهزاء، فصار المراد عندهم أن هذا الذي ادعاه من الرسالة مما لا يجوز أن يعتقد.

السابقالتالي
2 3 4