الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } * { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ }

ولما أتم سبحانه هذه الآيات في براءة عائشة رضي الله عنها ومقدماتها و خواتيمها، قال عاطفاً على قوله أولها { وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون }: { ولقد أنزلنا } أي بما لنا من العظمة ترغيباً لكم وترهيباً { إليكم } أي لتتعظوا { آيات مبينات } مفصل فيها الحق من الباطل، موضح بالنقل والعقل بحيث صارت لشدة بيانها تبين هي لمن تدبرها طرق الصواب كما أوضحنا ذلك لمن يتدبره في براءة عائشة رضي الله تعالى عنها وما تقدمها وتتبعها مما هو صلاحكم في الدين والدنيا { ومثلاً } أي وشبهاً بأحوالكم { من الذين خلوا من قبلكم } أي من أحوالهم بما أنزل الله إليهم في التوراة في أحوال المخالطة والزنى وقذف الأبرياء كيوسف ومريم عليهما السلام وتبرئتهم كما قدمت كثيراً منه في سورة المائدة وغيرها مما صار في حسن سبكه في هذا الكتاب، وبديع حبكه عند أولي الألباب، كالأمثال السائرة، والأفلاك الدائرة { وموعظة للمتقين* } بما فيه من الأحكام والفواصل المنبئة عن العلل المذكرة بما يقرب من الله زلفى، وينور القلب، ويوجب الحب والألفة، ويذهب وحر الصدر؛ ثم علل إنزاله لذلك على هذا السنن الأقوم، والنظم المحكم، بقوله: { الله } أي الذي أحاطت قدرته وعلمه { نور } أي ذو نور { السماوات والأرض } لأنه مظهرهما بإيجادهما وإيجاد أهلهما وهاديهم بالتنوير بالعلم الجاعل صاحبه بهدايته إلى الصراط المستقيم كالماشي في نور الشمس، لا يضع شيئاً في غير موضعه كما أن الماشي في النور لا يضع رجلاً في غير موضعها اللائق بها، ولا شك أن النور هو ما به تظهر به الأشياء وتنكشف، فهو سبحانه مظهرهما، وهما وما فيهما دال على ظهوره، وأنه تام القدرة شامل العلم حاوٍ لصفات الكمال، منزه عن شوائب النقص، وفي آخر الشورى ما ينفع جداً هنا.

ولما كان من المحال أن يضل عن نور هو ملء الخافقين أحد من سكانهما، بين وجه خفائه مع ظهور ضيائه واتساعه وقوة شعاعه، حتى ضل عنه أكثر الناس، فقال مبيناً بإضافة النور إلى ضميره أن الإخبار عنه بالنور مجاز لا حقيقة، منبهاً على أن آياته الهادية تلوح خلال الشبهات الناشئة عن الأوهام الغالبة على الخلق التي هي كالظلمات { مثل نوره } أي الذي هدى به إلى سبيل الرشاد في خفائه عن بعض الناس مع شدة ظهوره، وهو آياته الدالة عليه من أقواله وأفعاله { كمشكاة } أي مثل كة أي خرق لكن غير نافذ في جدار؛ قال البغوي: فإن كان لها منفذ فهي كوة.

ولما دخل المشكاة في هذا المثل خفياً فقدمها تشويقاً إلى شرحه، أتبعه قوله شارحاً له: { فيها مصباح } أي سراج ضخم ثاقب. وهو الذبالة - أي الفتيلة - الضخمة المتقدة، من الصباح الذي هو نور الفجر، والمصباح الذي هو الكوكب الكبير؛ قال البغوي: وأصله الضوء - انتهى.

السابقالتالي
2 3