الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ } * { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } * { فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } * { وَٱلَّذِينَ سَعَوْاْ فِيۤ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } * { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَانُ فِيۤ أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلْقِي ٱلشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ ٱللَّهُ آيَاتِهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }

ولما دل على نصر أوليائه، وقسر أعدائه، بشهادة تلك القرى، وختم بالتعجيب من استعجالهم مع ما شاهدوا من إهلاك أمثالهم، وأعلمهم ما هو عليه من الأناة، واتساع العظمة، وكبر المقدار، عطف على { فكأين } محذراً من نكاله، بعد طويل إمهاله، قوله: { وكأين من قرية } أي من أهلها { أمليت لها } أي أمهلتها كما أمهلتكم { وهي ظالمة } كظلمكم بالاستعجال وغيره { ثم أخذتها } أي بالعذاب { وإليّ المصير* } بانقطاع كل حكم دون حكمي، كما كان مني البدء، فلم يقدر أحد أن يمنع من خلق ما أردت خلقه، ولا أن يخلق ما لم أرد خلقه، فلا تغتروا بالإمهال، وإن تمادت الأيام والليالي، واحذروا عواقب الوبال، وإن بلغتم ما أردتم من الآمال، ولعله إنما طوى ذكر البدء، لأنه احتجب فيه بالأسباب فغلب فيه اسمه الباطن، ولذلك ضل في هذه الدار أكثر الخلق وقوفاً مع الأسباب.

ولما كان الاستعجال بالأفعال لا يطلب من الرسول، وكان الإخبار باستهزائهم وشدة عماهم ربما أفهم الإذن في الإعراض عنهم أصلاً ورأساً قال سبحانه وتعالى مزيلاً لذلك منبهاً على أن مثله إنما يطلب من المرسل، لا من الرسول: { قل } أي لهم، ولا يصدنك عن دعائهم ما أخبرناك به من عماهم { يا أيها الناس } أي جميعاً من قومي وغيرهم { إنما أنا لكم نذير } أي وبشير، وإنما طواه لأن المقام للتخويف، ويلزم منه الأمن للمنتهى فتأتي البشارة، ولأن النذارة هي المقصود الأعظم من الدعوة، لأنه لا يقدم عليها إلا المؤيدون بروح من الله { مبين* } أي لكل ما ينفعكم لتلزموه. ويضركم فتتركوه لا إله، أعجل لكم العذاب؛ ثم تسبب عن كونه مبيناً العلم بأن وصف البشارة مراد وإن طوي، فدل عليه سبحانه بقوله تفضيلاً لأهل البشارة والنذارة: { فالذين آمنوا } أي أقروا بالإيمان { وعملوا } أي تصديقاً لدعواهم ذلك { الصالحات لهم مغفرة } لما فرط منهم من التقصير لأنه لن يقد أحد أن يقدر الله حق قدره.

ولما كان هذا أول الإذن في القتال، الموجب لمنابذة الكفار، ومهاجرة الأهل والأموال والديار، وكان ذلك - مع كونه في غاية الشدة - موجباً للفقر عادة، قال محققاً له ومنبهاً على أنه سبب الرزق: { ورزق } أي في الدنيا بالغنائم وغيرها، والآخرة بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر { كريم* } لا خسة فيه ولا دناءة بانقطاع ولا غيره أصلاً ما داموا على الاتصاف بذلك، هذا فعل ربهم بهم عكس ما وصف به مدعو الكفار من أن ضره أقرب من نفعه.

ولما كان في سياق الإنذار، قال معبراً بالماضي زيادة في التخويف: { والذين سعوا } أي أوقعوا السعي ولو مرة واحدة بشبهة من الشبه ونحوها { في آياتنا } أي التي نصبناها للدلالة علينا مرئية أو مسموعة { معاجزين } أي مبالغين في فعل ما يلزم - في زعمهم - منه عجزنا، ومعجزين، أي مقدرين أنهم يعجزوننا بإخفائهم آياتنا، وإضلال الناس وصدهم عهنا بألقاء الشبه والجدال، اتباعاً للشيطان المريد، من غير علم ولا هدى ولا كتب منير كشبه الاتحادية الذين راج أمرهم على كثير من الناس مع أنه لا شيء أوهى من شبههم ولا أظهر بطلاناً، ولذلك راج أمرها على أهل الغباوة، فإن الداعية منهم يقول لمن يغره: هذا الظاهر من الكلام لا يقول به عاقل، فالمراد به أسرار دقيقة، وراء طور العقل، لا يوصل إليه إلا بالرياضة والكشف، وما درى المغرور أن أبا طالب كان أعقل من هذا الذي ينسب إليه ذلك الكفر الظاهر، فإن شعره أحسن من شعره، وبديهته أعظم من بديهته، ورؤيته أحكم من رؤيته، وقد رأى من الآيات من النبي صلى الله عليه وسلم ما لا مزيد عليه، مع أن له من القرابة ما هو معروف، ومن المحبة ما يفوت الحصر، ومع ذلك فقد أصرّ من الضلال ما لا يرضاه حمار لو نطق، على أن هذا المغرور قد لزمه - بتحسين الظن بهؤلاء الكفرة - إساءة الظن بأشرف الخلق: النبي صلى الله عليه وسلم في قوله

السابقالتالي
2 3