الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْوَارِثِينَ } * { فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ } * { وَٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَٱبْنَهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ }

ولما كان حاصل أمر يونس عليه السلام أنه خرج من بطن لم يعهد الخروج من مثله، عطف عليه قصة زكريا عليه السلام في هبته له ولداً من بطن لم يعهد الحمل من مثله في العقم واليأس ناظراً إلى أبيه إبراهيم عليه السلام أول من ذكر تصريفه في أحاد العناصر فيما اتفق له من مثل ذلك في ابنه إسحاق عليه السلام تكريراً لأعلام القيامة وتقريراً للقدرة التامة فقال: { وزكريا } أي اذكره { إذ نادى ربه } نداء الحبيب القريب فقال: { رب } بإسقاط أداة البعد { لا تذرني فرداً } أي من غير ولد يرث ما آتيتني من الحكمة.

ولما كان من الوارث من يحب من يحجبه من الإرث أو يشاركه فيه، ومنهم من لا يحب ذلك ويسعى في إهلاك من يحجبه أو ينقصه، ومنهم من يأخذ الإرث فيصرفه في المصارف القبيحة على ما تدعوه إليه شهوته وحاجته، ومنهم من يأخذه بعفة فينفذ وصايا الموروث ويصل ذا قرابته وأهل وده، ويتصدق عنه، ويبادر إلى كل ما كان يحبه وينفعه، كل ذلك لغنى نفسه وكرم طبعه مع كونه مجبولاً على الحاجة والنقص، وكان الله هو الغني الحميد، الحكيم المجيد، قال ملوحاً بمقصده في أسلوب الإلهاب والتهييج: { وأنت } أي والحال أنك { خير الوارثين* } لأنك أغناهم عن الإرث وأحسنهم تصرفاً، وكثيراً ما تمنح إرث بعض عبيدك عبيداً آخرين، فأنت الحقيق بأن تفعل في إرثي من العلم والحكمة ما أحبه، فتهبني ولداً تمن عليه بذلك { فاستجبنا له } بعظمتنا وإن كان في حد من السن لا حراك به معه وزوجه في حال من العقم لا يرجى معه حبلها، فكيف وقد جاوزت سن اليأس، ولذلك عبر بما يدل على العظمة فقال: { ووهبنا له يحيى } وارثاً حكيماً نبياً عظيماً { وأصلحنا له } خاصة من بين أهل ذلك الزمان { زوجه } أي جعناها صالحة لكل خير، خالصة له ولا سيما لما مننا عليه به من هذه الهبة بعد أن كانت بعقمها وكبرها غير صالحة له بوجه يقدر عليه غيرنا؛ ثم استأنف البيان لخيرية الموروث والوارث والمصلحة للولادة فقال، مؤكداً ترغيباً في مثل أحوالهم وأنها مما يلتذ بذكره ويعجب من أمره: { إنهم كانوا } مجبولين في أول ما خلقناهم جبلة خير، مهيئين لأنهم { يسارعون في الخيرات } أي يبالغون في الإسراع بها مبالغة من يسابق آخر، ودل على عظيم أفعالهم بقوله: { ويدعوننا } مستحضرين لجلالنا وعظمتنا وكمالنا { رغباً } في رحمتنا { ورهباً } من سطوتنا { وكانوا } أي جبلة وطبعاً { لنا } خاصة { خاشعين* } ي خائفين خوفاً عظيماً يحملهم على الخضوع والانكسار.

ولما استدل على الساعة بما وهب لهؤلاء القوم من أهل الطاعة من التصرف في العناصر وغيرها إلى أن ذكر أنه خرق العادة في إيداع يحيى عليه الصلاة والسلام بين والدين لا يولد لمثلهما لأن أباه زكريا عليه السلام كان قد صار إلى حالة الكبر ويبس من الأعضاء عظيمة، وأمه كانت - مع وصولها إلى مثل تلك الحال - عاقراً في حال شبابها، تلاه بإبداع ابن خالته عيسى عليه السلام الذي هو علم للساعة على حال أغرب من حاله، فأخرجه من أنثى بلا ذكر، إشارة إلى قرب الوقت لضعف الأمر، كضعف الأنثى بالنسبة إلى الذكر، فقال: { والتي أحصنت فرجها } أي حفظته من الحلال والحرام حفظاً يحق له أن يذكر ويتحدث به، لأنه غاية في العفة والصيانة، والتخلي عن الملاذ إلى الانقطاع إلى الله تعالى بالعبادة، مع ما جمعت إلى ذلك من الأمانة والاجتهاد في متانة الديانة { فنفخنا } أي بما لنا من العظمة التي لا يداني أوجها نقص، ولا يقرب من ساحتها حاجة ولا وهن { فيها } أي في فرجها - كما التحريم، نفخاً هو من جناب عظمتنا؛ ودل على عظم خلوصه وصفائه بقوله: { من روحنا } أي من روح يحق له أن يضاف إلينا لجلالته وطهارته، فكان من ذلك النفخ حبل وولد.

السابقالتالي
2 3