الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ بَلْ قَالُوۤاْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ ٱفْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ ٱلأَوَّلُونَ } * { مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ } * { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ فَاسْئَلُوۤاْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } * { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ } * { ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ ٱلْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا ٱلْمُسْرفِينَ }

ولما كانت أقوالهم في أمر القرآن قد اضطربت، والإضطراب من أمارات الباطل، وكان وصفهم له بأنه سحر مما يهول السامع ويعلم منه أنه معجز، فربما أدى إلى الاستبصار في أمره، أخبر أنهم نزلوا به عن رتبة السحر على سبيل الاضطراب فقال: { بل قالوا } أي عن هذا الذكر الحكيم أنه { أضغاث أحلام } أي تخاليط نائم مبناه الباطل وإن كان ربما صدق بالأخبار ببعض المغيبات التي كشف الزمان عن أنها كما أخبر القرآن، ثم أنزلوا عن ذلك إلى الوصف موجب لأعظم النفرة عنه وعمن ظهر عنه فقالوا: { بل افتراه } أي تعمد وصفه من عند نفسه ونسبه إلى الله.

ولما كان ذلك لا ينافي كون مضمونه صادقاً في نفسه، قالوا { بل هو شاعر } أي يخيل ما لا حقيقة له كغيره من الشعراء، تتربص به ريب المنون لأنه بشر كما تقدم، فلا بد أن يموت ونستريح بعد موته، وإليه أشار في آخر التي قبلهاقل كل متربص } [طه: 135] إلى أخره، فاضطربت أقوالهم وعوّلوا أخيراً على قريب من السحر في نفي الحقيقة.

ولما كانوا يصفون القرآن بجميع هذه الأوصاف جملة، يقولون لكل شخص ما رأوه أنسب له منها، نبه الله سبحانه كل من له لب على بطلانها كلها بتناقضها بحرف الإضراب إشارة إلى أنه كان يجب على من قالها على قلة عقله وعدم حيائه أن لا ينتقل إلى قول منها إلا بعد الإعراض عن الذي قبله، وأنه مما يضرب عنه لكونه غلطاً، ما قيل إلا عن سبق لسان وعدم تأمل، ستراً لعناده وتدليساً لفجوره، ولو فعل ذلك لكانت جديرة بانكشاف بطلانها بمجرد الانتقال فكيف عند اجتماعها. ولما كانت نسبته إلى الشعر أضعفها شأناً، وأوضحها بطلاناً، لم يحتج إلى إضراب عنه، وعبروا في الأضغاث بوصف القرآن تأكيداً لعيبه، وفي الافتراء والشعر بوصفه صلى الله عليه وسلم لذلك.

ولما أنتج لهم ذلك على زعمهم القدح في أعظم المعجزات، سببوا عن هذا القدح طلب آية فقالوا: { فليأتنا } أي دليلاً على رسالته { بآية } أي لأنا قد بينا بطعننا أن القرآن ليس بآية؛ ثم خيلوا النصفة بقولهم: { كما } أي مثل ما، وبنوا الفعل للمفعول إشارة إلى أنه متى صحت الرسالة كان ذلك بزعمهم من غير تخلف لشيء أصلاً فقالوا: { أرسل الأولون* } أي بالآيات مثل تسبيح الجبال، وتسخير الريح، وتفجير الماء، وإحياء الموتى، وهذا تناقض آخر في اعترافهم برسالة الأولين مع معرفتهم أنهم بشر، وإنكارهم رسالته صلى الله عليه وسلم لكونه بشراً، ولم يستحيوا بعد التناقض من المكابرة فيما أتاهم به من انشقاق القمر، وتسبيح الحصى، ونبع الماء، والقرآن المعجز، مع كونه أمياً - إلى غير ذلك.

السابقالتالي
2 3