الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ فِي هَـٰذَا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ } * { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } * { قُلْ إِنَّمَآ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } * { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ ءَاذَنتُكُمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ وَإِنْ أَدْرِيۤ أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ } * { إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } * { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ } * { قَالَ رَبِّ ٱحْكُم بِٱلْحَقِّ وَرَبُّنَا ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ }

ولما كان ما ذكر في هذه السورة من الحكم والدلائل والقصص واعظاً شافياً حكيماً، ومرشداً هادياً عليماً، قال واصلاً بما تقدم إشارة إلى أنه نتيجته: { إن في هذا } أي الذي ذكرناه هنا من الأدلة على قدرتنا على قيام الساعة وغيرها من الممكنات، وعلى أن من ادعى علينا أمراً فأيدناه عليه وجعلنا العاقبة له فيه فهو صادق محق، وخصمه كاذب مبطل { لبلاغاً } لأمراً عظيماً كافياً في البلوغ إلى معرفة الحق فيما ذكرناه من قيام الساعة والوحدانية وجميع ما تحصل به البعثة { لقوم } أي لأناس أقوياء على ما يقصدونه { عابدين* } أي معترفين بالعبودية لربهم الذي خلقهم اعترافاً تطابقه الأفعال بغاية الجد والنشاط.

ولما كان هذا مشيراً إلى رشادهم، فكان التقدير: فما أرسلناك إلا لإسعادهم والكفاية لهم في البلاغ إلى جنات النعيم، عطف عليه ما يفهم سبب التأخير لإنجاز ما يستعجله غير العابدين من العذاب فقال: { وما أرسلناك } أي بعظمتنا العامة على حالة من الأحوال { إلا } على حال كونك { رحمة للعالمين* } كلهم، أهل السماوات وأهل الأرض من الجن والأنس وغيرهم، طائعهم بالثواب، وعاصيهم بتأخير العقاب، الذي كنا نستأصل به الأمم، فنحن نمهلهم ونترفق بهم، إظهاراً لشرفك وإعلاء لقدرك، حتى نبين أنهم مع كثرتهم وقوتهم وشوكتهم وشدة تمالئهم عليك لا يصلون إلى ما يريدون منك، ثم نرد كثيراً منهم إلى دينك، ونجعلهم من أكابر أنصارك وأعاظم أعوانك، بعد طول ارتكابهم الضلال، وارتباكهم في أشراك المحال، وإيضاعهم في الجدال والمحال، فيلعم قطعاً أنه لا ناصر لك إلا الله الذي يعلم القول في السماء والأرض، ومن أعظم ما يظهر فيه هذا الشرف في عموم الرحمة وقت الشفاعة العظمى يوم يجمع الأولون والآخرون، وتقوم الملائكة صفوفاً والثقلان وسطهم، ويموج بعضهم في بعض من شدة ما هم فيه، يطلبون من يشفع لهم في أن يحاسبوا ليستريحوا من ذلك الكرب أما إلى جنة أو نار، فيقصدون أكابر الأنبياء نبياً نبياً عليهم الصلاة والسلام، والتحية والإكرام، فيحيل بعضهم على بعض، وكل منهم يقول: لست لها، حتى يأتوه صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها، ويقوم ومعه لواء الحمد فيشفعه الله وهو المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون وقد سبقت أكثر الحديث بذلك في سورة غافر عندولا شفيع يطاع } [الآية: 18].

ولما كان البلاغ الذي رتب هذا لأجله هو التوحيد الملزوم لتمام القدرة، أتبع الإشارة إلى تأخيرهم الإيمان إلى تحذيرهم فقال: { قل } أي لكل من يمكنك له القول: { إنما يوحى إليّ } أي ممن لا موحي بالخير سواه وهو الله الذي خصني بهذا الكتاب المعجز { أنما إلهكم }.

ولما كان المراد إثبات الوحدانية، لإله مجمع على إلهيته منه ومنهم، كرر ذكر الإله فقال: { إله واحد } لا شريك له، لم يوح إليّ في أمر الإله إلا الوحداينة، وما إلهكم إلا واحد لمن يوح إليّ فيما تدعون من الشركة غير ذلك، فالأول من قصر الصفة على الموصوف، أي الحكم على الشيء، أي الموحي به إليّ مقصور على الوحدانية لا يتعداها إلى الشركة، والثاني من قصر الموصوف على الصفة، أي الإله مقصور على الوحدة لا يتجاوزها إلى التعدد، والمخاطب بهما من يعتقد الشركة، فهو قصر قلب.

السابقالتالي
2 3