الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَٱلآنَ بَٰشِرُوهُنَّ وَٱبْتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّليْلِ وَلاَ تُبَٰشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَٰكِفُونَ فِي ٱلْمَسَٰجِدِ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ ءَايَٰتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } * { وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ٱلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ بِٱلإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

ولما تصوروا لهذه الآية الشريفة قربه وحبه على عظمته وعلوه فتذكروا لذيذ مخاطبته فيما قبل فاشتاقوا إليها وكان قد يسر لهم أمر الصوم كما على جميعهم وكيفاً على أهل الضرورة منهم كانوا كأنهم سألوه التيسير على أهل الرفاهية فيما حرم عليهم كما حرم على أهل الكتاب والوطء في شهر الصوم والأكل بعد النوم فقال تحقيقاً للإجابة والقرب: { أحل لكم } فأشعر ذلك بأنه كان حراماً { ليلة } أي في جميع ليلة { الصيام الرفث } وهو ما يواجه به النساء في أمر النكاح، فإذا غير فلا رفث عند العلماء من أهل اللغة، ويدل عليه وصله بحرف الانتهاء بياناً لتضمين الإفضاء أي مفضين { إلى نسائكم } بالجماع قولاً وفعلاً، وخرج بالإضافة نساء الغير.

ولما كان الرفث والوقاع متلازمين غالباً قال مؤكداً لإرادة حقيقة الرفث وبيان السبب في إحلاله: { هن } أي نساؤكم { لباس لكم } تلبسونهن، والمعنى: أبيح ذلك في حالة الملابسة أو صلاحيتها، وهو يفهم أنه لا يباح نهاراً - والله سبحانه وتعالى أعلم؛ ويجوز أن يكون تعليلاً لأن اللباس لا غنى عنه والصبر يضعف عنهن حال الملابسة والمخالطة.

ولما كان الصيام عامّاً للصنفين قال: { وأنتم لباس لهن } يلبسنكم، ثم علل ذلك بقوله مظهراً لعظمة هذه الأمة عنده في إرادته الرفق بها { علم الله } أي المحيط علمه ورحمته وله الإحاطة الكاملة كما قدم من كونه قريباً اللازم منه كونه رقيباً { أنكم كنتم تختانون } أي تفعلون في الخيانة في ذلك من المبادرة إليه فعل الحامل نفسه عليه، والخيانة التفريط في الأمانة، والأمانة ما وضع ليحفظ، روى البخاري في التفسير عن البراء رضي الله تعالى عنه قال: " لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله عزّ وجلّ { علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم } " ، روى البخاري والترمذي والنسائي عن البراء أيضاً رضي الله تعالى عنه قال: " كان الرجل إذا صام فنام لم يأكل إلى مثلها " وإن صرمة بن قيس الأنصاري رضي الله تعالى عنه - فذكر حديثه في نومه قبل الأكل وأنه غشي عليه قبل انتصاف النهار فنزلت الآية.

ولما كان ضرر ذلك لا يتعداهم قال: { أنفسكم } ، ثم سبب عنه قوله: { فتاب عليكم }. قال الحرالي: ففيه يسر من حيث لم يؤاخذوا بذنب حكم خالف شرعة جبلاتهم فعذرهم بعلمه فيهم ولم يؤاخذهم بكتابه عليهم، وفي التوب رجوع إلى مثل الحال قبل الذنب " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " وكانت هذه الواقعة لرجل من المهاجرين ورجل من الأنصار ليجتمع اليمن في الطائفتين، فإن أيمن الناس على الناس من وقع في مخالفة فيسر الله حكمها بوسيلة مخالفته، كما في هذه الآية التي أظهر الله سبحانه وتعالى الرفق فيها بهذه الأمة من حيث شرع لها ما يوافق كيانها وصرف عنها ما علم أنها تختان فيه لما جبلت عليه من خلافه، وكذلك حال الآمر إذا شاء أن يطيعه مأموره يأمره بالأمور التي لو ترك ودواعيه لفعلها وينهاه عن الأشياء التي لو ترك ودواعيه لاجتنبها، فبذلك يكون حظ حفظ المأمور من المخالفة، وإذا شاء الله تعالى أن يشدد على أمة أمرها بما جبلها على تركه ونهاها عما جبلها على فعله، فتفشوا فيها المخالفة لذلك، وهو من أشد الآصار التي كانت على الأمم فخفف عن هذه الأمة بإجراء شرعتها على ما يوافق خلقتها، فسارع سبحانه وتعالى لهم إلى حظ من هواهم، كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: " إن ربك يسارع إلى هواك " ليكون لهم حظ مما لنبيهم كليته، وكما قال عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله تعالى عنه:

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7