الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلْكِتَابِ وَٱلنَّبِيِّينَ وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلاةَ وَآتَى ٱلزَّكَاةَ وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَٱلصَّابِرِينَ فِي ٱلْبَأْسَآءِ وٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

ولما بين سبحانه وتعالى كفر أهل الكتاب الطاعنين في نسخ القبلة بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وكتمان الحق وغير ذلك إلى أن ختم بكفرهم بالاختلاف في الكتاب وكتمان ما فيه من مؤيدات الإسلام اتبعه الإشارة إلى أن أمر الفروع أحق من أمر الأصول لأن الفروع ليست مقصودة لذاتها، والاستقبال الذي جعلوا من جملة شقاقهم أن كتموا ما عندهم من الدلالة على حقيته وأكثروا الإفاضة في عيب المتقين به ليس مقصوداً لذاته، وإنما المقصود بالذات الإيمان فإذا وقع تبعته جميع الطاعات من الصلاة المشترط فيها الاستقبال وغيرها فقال تعالى: { ليس البر } أي الفعل المرضي الذي هو في تزكية النفس كالبر في تغذية البدن { أن تولوا وجوهكم } أي في الصلاة { قبل المشرق } الذي هو جهة مطالع الأنوار { والمغرب } الذي هو جهة أفوالها أي وغيرهما من الجهات المكانية، فإن ذلك كله لله سبحانه وتعالى كما مضى عند أول اعتراضهم التصريح بنسبة الكل إليهفأينما تولوا فثم وجه الله } [البقرة: 115]

ولما كان قد تبين للمتقين كما ذكر قبل ما يخرج عن الصراط المستقيم وحذروا منه ليجتنبوه عقبه بما يلزمهم ليعملوه فابتدأ من هنا بذكر الأحكام إلى قولهآمن الرسول } [البقرة: 258] وبدأ ذلك بما بدأ به السورة وفصل لهم كثيراً مما كلفوه مما أجمله قبل ذلك ففصل الإيمان تفصيلاً لم يتقدم فقال: { ولكن البر من } أي إيمان من، ولعله عبر بذلك إفهاماً لأن فاعل ذلك نفسه بر أي أنه زكى حتى صار نفس الزكاة { آمن بالله } الذي دعت إليه آية الوحدانية فأثبت له صفات الكمال ونزهه عن كل شائبة نقص مما على ذلك من دلائل أفعاله. ولما كان من أهم خلال الإيمان القدرة على البعث والتصديق به لأنه يوجب لزوم الخير والبعد عن الشر قال: { واليوم الآخر } الذي كذب به كثير من الناس فاختل نظامهم ببغي بعضهم على بعض، فالأول مبرأ عن الأنداد وهذا مبعد عن أذى العباد.

ولما كان هذا إيمان الكمل وكان أكثر الناس نيام العقول لا يعرفون شيئاً إلا بالتنبيه وضُلال البصائر يفترقون إلى الهداية ذكر سبحانه وتعالى الهداة الذين جعلهم وسائط بينه وبين عباده بادئاً بالأول فالأول فقال: { والملائكة } أي الذين أقامهم فيما بينه وبين الناس وهم غيب محض { والكتاب } الذي ينزلون به على وجه لا يكون فيه ريب أعم من القرآن وغيره { والنبيين } الذين تنزل به عليهم الملائكة، لكونهم خلاصة الخلق، فلهم جهة ملكية يقدرون بها على التلقي من الملائكة لمجانستهم إياهم بها، وجهة بشرية يتمكن الناس بها من التلقي منهم، ولهم من المعاني الجليلة الجميلة التي صرفهم الله فيها بتكميل أبدانهم وأرواحهم ما لا يعلمه إلا هو فعليهم الصلاة والسلام والتحية والإكرام.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10