الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل للَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } * { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } * { قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ }

ولما كان ادعاؤهم أن أسلافهم على دينهم لئلا تنتقض دعواهم أن الجنة خاصة بهم مع كونه فضولاً لا سند له يثبت به شيء محاولة لعدم جواز النسخ وكان إبطال الله تعالى لقولهم وعيبهم بما أحدثوا في دينهم وتقريعهم به ملزوماً لأن يكونوا أباحوا أنفسهم منه ما منعوا منه خالقهم وهو لا يسأل عما يفعل كانوا أسفه الناس فعقبه بالتصريح بعيبهم والتعجيب منهم في إنكارهم لنسخ القبلة وخفتهم بالاعتراض على ربهم فقال واصلاً له بما قبله على وجه أعم. { سيقول } إلى آخره، لأنهم إذا لم يكونوا يعلمون حقية ذلك فلم يتبعوهم فلا أقل من أن يكفوا عن عيبهم فكيف وهم عالمون بأنه الحق! وقال: { السفهاء } ولم يقل: سيقولون، إظهاراً للوصف الذي استخفهم إلى هذا القول الظاهر عواره لأهل كل دين والسفيه الذي يعمل بغير دليل، إما بأن لا يلتفت إلى دليل فلا يتوقف إلى أن يلوح له بل يتبع هواه، أو يرى غير الدليل دليلاً، وأكد الوصف بالطيش بقوله: { من الناس } المأخوذ من النوس وهو التحرك، دون أن يقول: من أهل الكتاب، أو بني إسرائيل - ونحو ذلك تصريحاً بذمهم وتعميماً لكل من مالأهم على ذلك { ما ولاهم } ولم يقولوا: مَن، زيادة في الأذى بالاحتقار { عن قبلتهم }. قال الحرالي: القبلة ما تجعل قبالة الوجه، والقبل ما أقبل من الجسد في مقابلة الدبر لما أدبر منه { التي كانوا عليها } أي بيت المقدس، ولعله ترك الإفصاح ليصلح ذلك لإرادة الكعبة أيضاً ليصير المعنى: إن كانوا انتقلوا عن الكعبة بأمر الله فهم مبطلون في رجوعهم وإلا فهم في كل حال أتباع الهوى؛ وفي ذلك إشارة إلى أنه لما انقطعت حججهم ألقوا هذه الشبهة إلى من اختدعوه من المنافقين ولم يقدروا أن يواجهوا بها أحداً من الثابتي الإيمان، كما قالوا فيما تقدم:كونوا هوداً أو نصارى } [البقرة: 135] ونحوه علماً منهم بأن المحاج لهم عن المؤمنين من له الحجة البالغة؛ ولذا جاء جوابهم بقوله: { قل } خالياً عن خطاب لا كما مضى في قوله:قل أتخذتم عند الله عهداً } [البقرة: 80]قل هاتوا برهانكم } [البقرة: 111] ونحوه؛ وساق سبحانه الإخبار عنهم بذلك على طريق هو من أعلام النبوة وجلائل الرسالة؛ فإنه إخبار عما سيكون من الأعداء، فكان منهم على وفق الخبر؛ ولم يقدروا مع شدة عداوتهم واجتهادهم في القدح بأدنى شبهة في التكذيب على تكذيبه بالكف عن ذلك؛ هذا مع توطئة لذلك فيما سلف في خمسة مواضع: تحريفهم لكلام الله، وإيقاعه النسخ واستدلاله على حسن فعله، وإخباره بظلم مانع المسجد، وإخباره بأنه لا يختص به جهة دون أخرى، وذكره بناء البيت وما أمر به من تعظيمه واتخاذه مصلى؛ مع ما في ذلك من توطين نفوس أهل الإسلام وإكرامهم بتعليم الجواب قبل الحاجة، ليكون أقطع للخصم وأكسر لشوكته وأردّ لشغبه.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7