ولما تقرر بما أنبأ من بديع آياته في منبث مصنوعاته أن عظمته تقصر عنها الأوهام وتنكص خاسئةً دونها نوافذ الأفهام عجب من الجرأة عليه بما استوى فيه حال الجهلة من العرب بالعلماء من أهل الكتاب تبكيتاً لهم وتنفيراً منهم بأنه لا حامل لهم على الرضى لأنفسهم بالنزول من أوج العلم إلى حضيض أهل الجهل إلا اتباع الهوى فقال: { وقال الذين لا يعلمون } أي ليس لهم علم من العرب { لولا } أي هلا { يكلمنا الله } أي يوجد كلامه لنا على ما له من جميع الصفات { أو تأتينا آية } أي على حسب اقتراحنا عادّين ما آتاهم من الآيات - على ما فيها من آية القرآن التي لا يوازيها آية أصلاً - عدماً. ولما كان قولهم هذا جديراً بأن لا يصدق نبه عليه بقوله: { كذلك } أي الأمر كما ذكرنا عنهم. ولما كان كأنه قيل: هل وقع مثل هذا قط؟ قيل: نعم، وقع ما هو أعجب منه، وهو أنه { قال الذين } ولما كان المراد بعض من تقدم أدخل الجار فقال: { من قبلهم } ممن ينسب إلى العلم من أهل الكتاب { مثل قولهم } ، ثم علله بقوله: { تشابهت قلوبهم } في هذا وإن كانت مختلفة باعتبار العلم، وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه كما تعنت عليه تعنت على من قبله. ولما كان ذلك توقّع السامع الإخبار عن البيان فكان كأنه قيل: هل قالوا ذلك جهلاً أو عناداً؟ فقيل: بل عناداً لأنا { قد بينا الآيات } في كل آية في الكتاب المبين المسموع والكتاب الحكيم المرئي. ولما كان يقع البيان خاصاً بأهل الإيقان قال: { لقوم يوقنون } وفيه بعث للشاك على تعاطي أسباب الإيقان، وهو صفاء العلم عن كدر بطرق الريب لاجتماع شاهدي السمع والعين. قال الحرالي: وفيه إشارة لما حصل للعرب من اليقين، كما قال سيد العرب علي رضي الله عنه: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً. استظهاراً لما بطن من عالم الملكوت على ظاهر عالم الملك إكمالاً للفهم عن واضح هذا البيان الذي تولاه الله ومن اصطفاه الذي اشتمل عليه استتباع ضمير { بينا }؛ وفي استواء العالم وغيره في الجهل بعد البيان دليل على مضمون التي قبلها في أن ما أراد كان. ولما تضمن هذا السياق الشهادة بصحة رسالته صلى الله عليه وسلم وأنه ليس عليه إلا البيان صرح بالأمرين في قوله مؤكداً لكثرة المنكرين { إنا أرسلناك } هذا على أن يكون المراد بذلك جميع الأمم، أما إذا أريد هذه الأمة فقط فيكون المعنى: قد بينا الآيات الدالات على طريق الحق بأعظم برهان وبالإخبار عن دقائق لا يعلمها إلا حُذّاق أهل الكتاب لقوم يحق عليهم الإيقان لما وضح لهم من الأدلة، ثم علل ذلك لقوله: { إنا أرسلناك } إرسالاً ملتبساً { بالحق } أي بالأمر الكامل الذي يطابقه الواقع في كل جزئية يخبر بها.