الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } * { جَنَّاتِ عَدْنٍ ٱلَّتِي وَعَدَ ٱلرَّحْمَـٰنُ عِبَادَهُ بِٱلْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } * { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } * { تِلْكَ ٱلْجَنَّةُ ٱلَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } * { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذٰلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } * { رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَٱعْبُدْهُ وَٱصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً }

ولما أخبر تعالى عنهم بالخيبة، فتح لهم باب التوبة، وحداهم إلى غسل هذه الحوبة، بقوله: { إلا من تاب } أي مما هو عليه من الضلال، بإيثار سفساف الأعمال، على أوصاف الكمال، فحافظ على الصلاة، وكف نفسه عن الشهوات { وءامن } بما أخذ عليه به العهد { وعمل } بعد إيمانه تصديقاً له { صالحاً } من الصلوات والزكاة وغيرها، ولم يؤكدهما لما أفهمته التوبة من إظهار عمل الصلاة التي هي أم العبادات { فأولئك } العالو الهمم، الطاهرو الشيم { يدخلون الجنة } التي وعد المتقون { ولا يظلمون } من ظالم ما { شيئاً * } من أعمالهم؛ ثم بينها بقوله: { جنات عدن } أي إقامة لا ظعن عنها بوجه من الوجوه { التي وعد الرحمن } الشامل النعم { عباده } الذين هو أرحم بهم من الوالدة بولدها؛ وعبر عنهم بوصف العبودية للإشعار بالتحنن، وعداً كائناً { بالغيب } الذي لا اطلاع لهم عليه أصلاً إلا من قبلنا، فآمنوا به فاستحقوا ذلك بفضله سبحانه على إيمانهم بالغيب.

ولما كان من شأن الوعود الغائبة - على ما يتعارفه الناس بينهم - احتمال عدم الوقوع، بين أن وعده ليس كذلك بقوله: { إنه كان } أي كوناً هو سنة ماضية { وعده مأتيّاً * } أي مقصوداً بالفعل، فلا بد من وقوعه، فهو كقوله تعالىإن كان وعد ربنا لمفعولاً } [الإسراء: 108].

ولما كانت الجنة دار الحق، وكان أنكأ شيء لذوي الأقدار الباطل، وكان أقل ما ينكأ منه سماعه، نفى ذلك عنها أبلغ وجه فقال: { لا يسمعون فيها لغواً } أي شيئاً ما من الباطل الذي لا ثمرة له. ولما كانت السلامة ضد الباطل من كل وجه، قال: { إلا } أي لكن { سلاماً } لا عطب معه ولا عيب ولا نقص أصلاً فيه، وأورد على صورة الاستثناء من باب قول الشاعر:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم   بهن فلول من قراع الكتائب
ويحسن أن يراد باللغو مطلق الكلام؛ قال في القاموس: لغا لغواً: تكلم. أي لا يسمعون فيها كلاماً إلا كلاماً يدل على السلامة، ولا يسمعون شيئاً يدل على عطب أحد منهم ولا عطب شيء فيها.

ولما كان الرزق من أسباب السلامة قال: { ولهم رزقهم } أي على قدر ما يتمنونه ويشتهونه على وجه لا بد من إتيانه ولا كلفة عليهم فيه ولا يمن عليهم به { فيها بكرة وعشياً * } أي دواماً، لا يحتاجون إلى طلبه في وقت من الأوقات، وفي تفسير عبد الرزاق عن مجاهد: وليس فيها بكرة ولا عشي، لكنهم يؤتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا. أي أنهم خوطبوا بما يعرفون كما أشار إليه تأخير الظرف إذ لو قدم لأوهم بعدهم عن ذلك بالجنة.

ولما باينت بهذه الأوصاف دار الباطل، أشار إلى علو رتبتها وما هو سببها بقوله: { تلك الجنة } بأداة البعد لعلو قدرها، وعظم أمرها { التي نورث } أي نعطي عطاء الإرث الذي لا نكد فيه من حين التأهل له بالموت ولا كد ولا استرجاع { من عبادنا } الذين أخلصناهم لنا، فخلصوا عن الشرك نية وعملاً { من كان } أي جبلة وطبعاً { تقياً * } أي مبالغاً في التقوى، فهو في غاية الخوف منا لاستحضاره أنه عبد؛ قال الرازي في اللوامع: وما تقرب أحد إلى ربه بشيء أزين عليه من ملازمة العبودية وإظهار الافتقار، والعبد يكون ذليلاً بأوصافه، عزيزاً بأوصاف الحق تعالى - انتهى.

السابقالتالي
2 3 4