الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } * { قَالَ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } * { قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } * { فَٱنْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي ٱلسَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً } * { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } * { قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً } * { فَٱنْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً }

ولما كان المقام صعباً جداً لأنه بالنسبة إلى أوامر الله تعالى، بينه على وجه أبلغ من نفي الأخص، وهو الصبر البليغ، بالتعجيب من مطلق الصبر معتذراً عن موسى في الإنكار، وعن نفسه في الفعل، بأن ذلك بالنسبة إلى الظاهر والباطن، فقال عاطفاً على ما تقديره: فكيف تتبعني الاتباع البليغ: { وكيف تصبر } يا موسى { على ما لم تحط به خبراً * } أي من جهة العلم به ظاهراً وباطناً، فأشار بالإحاطة إلى أنه كان يجوز أن يكون على صواب، ولكن تجويزاً لا يسقط عنه وجوب الأمر، ويجوز أن يكون هذا تعليلاً لما قبله، فيكون الصبر الثاني هو الأول، والمعنى أنك لا تستطيع الصبر الذي أريده لأنك لا تعرف فعلي على ما هو عليه فتراه فاسداً { قال } أي موسى عليه السلام، آتياً بنهاية التواضع لمن هو أعلم منه، إرشاداً لما ينبغي في طلب العلم رجاء تسهيل الله له والنفع به: { ستجدني } فأكد الوعد بالسين؛ ثم أخبر عنه سبحانه أنه قوى تأكيده بالتبرك بذكر الله تعالى لعلمه بصعوبة الأمر على الوجه الذي تقدم الحث عليه في هذه السورة في قوله تعالى { ولا تقولن لشيء إني فاعل } الآية ليعلم أنه منهاج الأنبياء وسبيل الرسل، فقال تعالى: { إن شاء الله } أي الذي له صفات الكمال { صابراً } على ما يجوز الصبر عليه؛ ثم زاد التأكيد بقوله عطفاً بالواو على " صابراً " لبيان التمكن في كل من الوصفين: { ولا أعصي } أي وغير عاص { لك أمراً * } تأمرني به غير مخالف لظاهر أمر الله { قال } أي الخضر عليه السلام: { فإن اتبعتني } يا موسى اتباعاً بليغاً { فلا تسألني عن شيء } أقوله أو أفعله { حتى أحدث لك } خاصة { منه ذكراً * } يبين لك وجه صوابه، فإني لا أقدم على شيء إلا وهو صواب جائز في نفس الأمر وإن كان ظاهره غير ذلك.

ولما تشارطا وتراضيا على الشرط سبب قوله تعالى: { فانطلقا } أي موسى والخضر عليهما السلام على الساحل، يطلبان سفينة يركبان فيها واستمرا { حتى إذا ركبا في السفينة } وأجاب الشرط بقوله تعالى: { خرقها } وعرفها لإرشاد السياق بذكر مجمع البحرين إلى أن انطلاقهما كان لطلب سفينة، فكانت لذلك كأنها مستحضرة في الذهن، ولم يقرن " خرق " بالفاء لأنه لم يكن مسبباً عن الركوب ولا كان في أول أحيانه؛ ثم استأنف قوله تعالى: { قال } أي موسى عليه السلام، منكراً لذلك لما في ظاهره من الفساد بإتلاف المال المفضي إلى فساد أكبر منه بإهلاك النفوس، ناسياً لما عقد على نفسه لما دهمه مما عنده من الله - وهو الإله العظيم - من العهد الوثيق المكرر في جميع أسفار التوراة بعد إثباته في لوحي الشهادة في العشر كلمات التي نسبتها من التوراة كنسبة الفاتحة من القرآن بالأمر القطعي أنه لا يقر على منكر، ومن المقرر أن النهي واجب على الفور، على أنه لا يقر على منكر، ومن المقرر أن النهي واجب على الفور، على أنه لو لم ينس لم يترك الإنكار، كما فعل عند قتل الغلام، لأن مثل ذلك غير داخل في الوعد، لأن المستثنى شرعاً كالمستثنى وضعاً، ففي الأولى نسي الشرط، وفي الثانية نسي - لما دهمه من فظاعة القتل الذي لم يعلم فيه من الله أمراً - أنه ينبغي تقليده لثناء الله تعالى عليه: { أخرقتها } وبين عذره في الإنكار بما في غاية الخرق من الفظاعة فقال: { لتغرق أهلها } والله! { لقد جئت شيئاً إمراً } أي عظيماً منكراً عجيباً شديداً { قال } أي الخضر عليه السلام: { ألم أقل إنك } يا موسى! { لن تستطيع معي صبراً * } فذكره بما قال له عند الشرط { قال } موسى: { لا تؤاخذني } يا خضر { بما نسيت } من ذلك الاشتراط { ولا ترهقني } أي تلحقني بما لا أطيقه وتعجلني عن مرادي باتباعك على وجه القهر ناسباً لي إلى السفه والخفة وركوب الشر { من أمري عسراً * } بالمؤاخذة على النسيان، فكل منهما صادق فيما قال، موف بحسب ما عنده، أما موسى عليه السلام فلأنه ما خطر له قط أن يعاهد على أن لا ينهى عما يعتقده منكراً، وأما الخضر فإنه عقد على ما في نفس الأمر لأنه لا يقدم على منكر، ومع ذلك فما نفي إلا الصبر البليغ الذي دل عليه بزيادة تاء الاستفعال، وقد حصل ما يطلق عليه صبر.

السابقالتالي
2