الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } * { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } * { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً }

ولما بين سبحانه أنه قادر على إذلال العزيز بعد ضخامة عزه، بين أنه مقتدر على إدالته على من قهره بعد طول ذله إذا نقاه من درنه وهذبه من ذنوبه، فقال تعالى مشيراً بأداة التراخي إلى عظمة هذه الإدالة بخرقها للعوائد: { ثم رددنا } أي بما لنا من العظمة، وعجل لهم البشرى بقوله تعالى: { لكم } أي خاصة { الكرة } أي العودة والعظمة؛ وبين أن ذلك مع السطوة بقوله سبحانه: { عليهم } قال بعض المفسرين: في زمان داود عليه السلام { وأمددناكم } أي أعنَّاكم بعظمتنا { بأموال } تستعينون بها على قتال أعدائكم { وبنين } أي تقوون بهم { وجعلناكم } أي بعظمتنا { أكثر } أي من عدوكم { نفيراً * } أي ناساً ينفرون معكم إذا استنفرتموهم للقتال ونحوه من المهمات، والظاهر أنه ليس المراد بهذه المرة ما كان على يدي داود عليه السلام لأن الله يقول في هذه المرة الثانية { وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة } وداود عليه السلام أسس المسجد ولم يكمله، إنما أكمله ابنه سليمان عليهما السلام من بعده، والذي عز من قال ذلك أن بني إسرائيل كانوا قهروا قبل داود عليه السلام من الفلسطينيين وغيرهم، ثم كان خلاصهم على يده عليه السلام - كما مضت الإشارة إليه في سورة البقرة، قال في الزبور في المزمور الثالث عشر: من يعطي صهيون الخلاص لإسرائيل؟ إذا رد الرب سبي شعبه يتهلل يعقوب ويفرح إسرائيل؛ وفي الثالث والأربعين: اللهم! إنا قد سمعنا بآذاننا وأخبرنا آباؤنا بالأعمال التي صنعت في أيامهم الأولى، فلنسبحك يا إلهنا كل يوم، ونشكر اسمك إلى الدهر، الآن أضعفتنا وأقصيتنا، ولم تكن يا رب تصحب جيوشنا، لكن رددتنا على أعقابنا عن أعدائنا، واختطفنا مبغضونا، جعلتنا مأكلة كالغنم، مددتنا بين الشعوب، بعت شعبك بلا ثمن، أقللت كثرة عددهم، صيرتنا عاراً في جيرتنا، هزاً وطنزاً لمن حولنا، صرنا مثلاً في الشعوب، وهزاً للرؤوس في الأمم، حزني بين يديّ النهار كله، الخزي غطى وجهي، من صوت المعير، اللهم! إن هذا كله قد نالنا ولم ننس اسمك، ولا نكثنا عهدك، ولا صرفنا قلوبنا عنك، عدلت بقصدنا عن سبلك، أنزلتنا محال وعرة، غشيتنا بظلال الموت، ولم ننسك يا رب، وقال في المزمور الثامن والسبعين والذي بعده: اللهم! إن الأمم دخلت ميراثك ونجست هيكل قدسك، جعلوا أورشليم خراباً كالمحرس، وصيروا جثث عبيدك طعاماً لطير السماء، ولحوم أصفيائك لوحوش الأرض، سفكوا دماءهم كالماء حول أورشليم وليس لهم دافن، صرنا عاراً في جيراننا، هزءاً وطنزاً لمن حولنا، حتى متى تسخط يا رب، دائماً يشتعل مثل النار غضبك، أفض رجزك على الأمم الذين لا يعرفونك وعلى الملوك الذين لم يدعوا اسمك، فإنهم أكلوا يعقوب وأخربوا دياره، لا تذكر خطايانا الأولى بل تغشانا رأفتك سريعاً، لأنا قد تمسكنا جداً، فكن لنا معيناً يا إلهنا ومخلصنا، ونمجد اسمك يا رب، نجنا واغفر لنا خطايانا لأجل اسمك الكريم، لئلا تقول الأمم: أين إلههم؟ عند ذلك تعلم الشعوب وتنظر عيوننا انتقام دماء عبيدك المسفوكة، وليدخل إليك تنهد الأسارى، وكمثل عظمة ذراعك أنقذ بني المقتولين، جاز جيراننا في حضنهم للواحد سبعة بالعار الذي عيروك يا رب! نحن شعبك وغنم رعيتك، نشكرك إلى الأبد ونخبر بتسابيحك من جيل إلى جيل.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد