الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يٰمُوسَىٰ مَسْحُوراً } * { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰؤُلاۤءِ إِلاَّ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يٰفِرْعَونُ مَثْبُوراً } * { فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ ٱلأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً }

ولما قدم سبحانه أن أكثر الناس جحد الآيات لكونه حكم بضلاله، ومن حكم بضلاله لا يمكن هداه، وختم بأن من جبل على شيء لم ينفك عنه، شرع يسلي نبيه عليه الصلاة والسلام بما اتفق لمن قبله من إخوانه الأنبياء، مع التنبيه على أنه يجود بالآيات على حسب المقتضيات، وعلى أن خوارق العادات لا تنفع في إيمان من حكم عليه بالضلال، وتوجب - كما في سنه الله - إهلاك من عصى بعد ذلك بعذاب الاستئصال، فقال عاطفاً على قوله { ولقد صرفنا للناس }: { ولقد ءاتينا } أي بما لنا من العظمة { موسى } بن عمران المتقي المحسن عليه السلام لما أرسلناه إلى فرعون { تسع آيات بينات } وهي - كما في التوراة: العصى، ثم الدم، ثم الضفادع، ثم القمل، ثم موت البهائم، ثم البرد الكبار التي أنزلها الله مع النار المضطرمة، فكانت تهلك كل ما مرت عليه من نبات وحيوان، ثم الجراد، ثم الظلمة، ثم موت الأبكار من الآدميين وجميع الحيوان - كما مضى ذلك في هذا الكتاب عن التوراة في سورة الأعراف، وكأنه عد اليد مع العصى آية، ولم يفرد اليد لأنه ليس فيها ضرر عليهم، وقد نظمتها ليهون حفظها فقلت:

عصى قمل موت البهائم ظلمة   جراد دم ثم الضفادع والبرد
وموت بكور الآدمي وغيره   من الحيّ آتاها الذي عز وانفرد
وهي ملخصة في الزبور فإنه قال في المزمور السابع والسبعين: صنع آياته وعجائبه في مصارع صاعان، وجعل أنهارهم دماً وصهاريجهم لكيلا يشربوا الماء: أرسل عليهم الهوام وذباب الكلاب فأكلهم الضفادع وأفسدهم، أطعم القمل ثمارهم والجراد كدهم، كسر بالبرد كرومهم، وبالجليد تبنهم، أسلم للبرد مواشيهم وللحريق أموالهم، أرسل عليهم شدة حنقه سخطاً وغضباً، أرسل ملائكة الشر، فتح طرق سخطه، ولم يخلص من الموت أنفسهم، أسلم للموت دوابهم، قتل جميع أبكار مصر وأول أولادهم في مساكن حام. وقال في المزمور الرابع بعد المائة بعد أن ذكر صنائع الله عند بني إسرائيل وآبائهم: بعث جوعاً على الأرض، حطم زرع أرضهم، أرسل أمامهم رجلاً، بيع يوسف للعبودية، وأوثقوا بالقيود رجليه، صارت نفسه في الحديد حتى جاءت كلمته، وقول الرب ابتلاه، أرسل الملك فأطلقه، وجعله رئيساً على شعبه، وأقامه رباً على بنيه، وسلطانه على كل ما له، ليؤدب أراجينه كنفسه ويفقه مشايخه، دخل إسرائيل مصر، وتغرب يعقوب في أرض حام، وكثر شعبه جداً، وعلا على أعدائه، وصرف قلبه ليبغض شبعه ويغدر بعبيده، أرسل موسى عبده وهارون صفيه، فصنعا فيهم آياته وعجائبه في أرض حام، بعث ظلمة فصار ليلاً، وأسخطوا كلامه، فحول مياههم دماً، وأمات حيتانهم، وانبعثت أرضهم ضفادع في قياطين ملوكهم، أمر الهوام فجاء وذباب الكلب والقمل في جميع تخومهم، جعل أمطارهم برداً، واشتعلت النار في أرضهم، ضرب كرومهم وتبنهم، وكسر شجر تخومهم، أذن للجراد فجاء وذباب لا يحصى، فأكل جميع عشب الأرض وثمارها، وقتل كل أبكار مصر وأول ولد ولد لهم غير أنه لم يذكر العصى، وكأن ذلك لشهرتها جداً عندهم، ولأن جميع الآيات كانت بها، فهي في الحقيقة الآية الجامعة للكل، وإنما قلت: إن الآيات هذه، لأن السياق يدل على أن فرعون رآها كلها، وعاند بعد رؤيتها، وذلك إشارة إلى أنه لو أعطى كفار قريش ما اقترحوه من تفجير الينبوع وما معه، لم يكفهم عن العناد، فالإتيان به عبث لا مصلحة فيه.

السابقالتالي
2