الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ ٱلْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْحُسْنَىٰ لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ } * { تَٱللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ ٱلْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } * { وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

ولما كان ما تقدم أمارة على كراهتهم لما نسبوه إلى الله تعالى، أتبعه التصريح بعد التلويح بقوله تعالى: { ويجعلون لله } أي وهو الملك الأعظم { ما يكرهون } أي لأنفسهم، من البنات والأموال والشركاء في الرئاسة، ومن الاستخفاف برسلهم وجنودهم والتهاون برسالاتهم، ثم وصف جراءتهم مع ذلك، الكائنة في محل الخوف، المقتضية لعدم التأمل اللازم لعدم العقل فقال: { وتصف } أي تقول معتقدة مع القول الصفاء، ولما كان قولاً لا حقيقة له بوحه، أسنده إلى اللسان فقال: { ألسنتهم } أي مع ذلك مع أنه قول لا ينبغي أن يتخيله عاقل { الكذب } ثم بينه بقوله: { أن لهم الحسنى } أي عنده، ولا جهل أعظم ولا حكم أسوأ من أن تقطع بأن من تجعل له ما تكره يجعل لك ما تحب، فكأنه قيل: فما لهم عنده؟ فقيل: { لا جرم } أي لا ظن ولا تردد في { أن لهم النار } التي هي جزاء الظالمين { وأنهم مفرطون * } أي مقدمون معجلون إليها بتقديم من يسوقهم وإعجاله لهم؛ وقال الرماني: متروكون فيها، من قول العرب: ما أفرطت ورائي أحداً، أي ما خلفت ولا تركت، وقرأ نافع بالتخفيف والكسر، أي مبالغون في الإسراف والجراءة على الله. ولما بين مآلهم، وكانوا يقولون: إن لهم من يشفع فيهم، بين لهم ما يكون من حالهم، بالقياس على أشكالهم تهديداً، وتسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال تعالى: { تالله } أي الملك الأعلى { لقد أرسلنا } أي بما لنا من العظمة، رسلاً من الماضين { إلى إمم } ولما كان الإرسال بالفعل لم يستغرق زمان القبل، قال: { من قبلك } كما أرسلناك إلى هؤلاء { فزين لهم الشيطان } أي المحترق بالغضب. المطرود باللعنة { أعمالهم } كما زين لهؤلاء فضلوا كما ضلوا فأهلكناهم { فهو } لا غيره { وليهم اليوم } بعد إهلاكهم حال كونهم في النار ولا قدرة له على نصرهم { ولهم عذاب أليم * } فلا ولي لأنه لو قدر على نصرهم لما أسلمهم للهلاك وقد أطاعوه، بل لو عدموا ولايته كان ذلك أولى لهم، فهو نفي لأن يكون لهم ولي على أبلغ الوجوه.

ولما كان حاصل ما مضى الخلاف والضلال والنقمة، كان كأنه قيل: فبين لهم وخوفهم ليرجعوا، فإنا ما أرسلناك إلا لذلك { وما أنزلنا } أي بما لنا من العظمة من جهة العلو { عليك الكتاب } أي الجامع لكل هدى. ولما كان في سياق الدعاء والبيان عبر بما يقتضي الإيجاب فقال: { إلا لتبين } أي غاية البيان { لهم } أي لمن أرسلت إليهم وهم الخلق كافة { الذي اختلفوا فيه } من جميع الأمور ديناً ودنيا لكونك أغزرهم علماً وأثقبهم فهماً، وعطف على موضع " لتبين " ما هو فعل المنزل، فقال تعالى: { وهدى } أي بياناً شافياً { ورحمة } أي وإكراماً بمحبة.

ولما كان ذلك ربما شملهم وهم على ضلالهم، نفاه بقوله تعالى: { لقوم يؤمنون * } والتبيين: معنى يؤدي إلى العلم بالشيء منفصلاً عن غيره، وقد يكون عن المعنى نفسه، وقد يكون عن صحته، والبرهان لا يكون إلا عن صحته فهو أخص، والاختلاف: ذهاب كل إلى غير جهة صاحبه، والهدى: بيان طريق العلم المؤدي إلى الحق.