الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } * { يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوۤاْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱتَّقُونِ } * { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ }

{ بسم الله } المحيط بدائرة الكمال ما شاء فعل { الرحمن } الذي عمت نعمته جليل خلقه وحقيره وصغيره وكبيره { الرحيم * } الذي خص من شاء بنعمة النجاة مما يسخطه بما يرضاه.

لما ختم الحجر بالإشارة إلى إتيان اليقين، وهو صالح لموت الكل، ولكشف الغطاء بإتيان ما يوعدون مما يستعجلون به استهزاء من العذاب في الآخرة بعد ما يلقون في الدنيا، ابتدأ هذه بمثل ذلك سواء، غير أنه ختم تلك باسم الرب المفهم للإحسان لطفاً بالمخاطب، وافتتح هذه باسم الأعظم الجامع لجميع معاني الأسماء لأن ذلك أليق بمقام التهديد، ولما ستعرفه من المعاني المتنوعة في أثناء السورة، وسيكرر هذا الاسم فيها تكريراً تعلم منه صحة هذه الدعوى، وعبر عن الآتي بالماضي إشارة إلى تحققه تحقق ما وقع ومضى، وإلى أن كل آتٍ ولا بد قريب، فقال تعالى: { أتى أمر الله } أي الملك الأعظم الذي له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، بما يذل الأعداء، ويعز الأولياء، ويشفي صدورهم، ويقر أعينهم.

ولما كانت العجلة نقصاً، قال مسبباً عن هذا الإخبار: { فلا تستعجلوه } أيها الأعداء استهزاء، وأيها الأولياء استكفاء واستشفاء، وذلك مثل ما أفهمه العطف في قوله تعالى { وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم } كما تقدم؛ والضمير يجوز أن يكون لله وأن يكون للأمر.

ولما كان الجزم بالأمور المستقبلة لا يليق إلا عند نفوذ الأمر، ولا نفوذ إلا لمن لا كفوء له، وكانت العجلة - وهي الإتيان بالشيء قبل حينه الأولى به - نقصاً ظاهراً لا يحمل عليها إلا في ضيق الفطن، وكان التأخير لا يكون إلا عن منازع مشارك، نزه نفسه سبحانه تنزيهاً مطلقاً جامعاً بقوله تعالى: { سبحانه } أي تنزه عن الاستعجال وعن جميع صفات النقص { وتعالى } أي تعالياً عظيماً جداً { عما يشركون * } أي يدعون أنه شريك له، فلا مانع مما يريد فعله، وساقه في غير قراءة حمزة والكسائي - في أسلوب الغيبة، إظهاراً للإعراض الدال على شدة الغضب، وهي ناظرة إلى قوله آخر التي قبلهاوأعرض عن المشركين } [ الحجر:94] وقوله:الذين يجعلون مع الله إلهاً ءاخر } [ الحجر:96] وقد آل الأمر في نظم الآية إلى أن صار كأنه قيل: إنه لا يعجل لأنه منزه عن النقص، ولا بد من إنفاذ أمره لأنه متعالٍ عن الكفوء؛ أو يقال: لا تستعجلوه لأنه تنزه عن النقص فلا يجعل، وتعالى عن أن يكون له كفوء يدفع ما يريد فلا بد من وقوعه، فهي واقعة موقع التعليل لصدر الآية كما أن صدر الآية تعليل لآخر سورة الحجر.

ولما تقرر بذلك تنزهه عن كل نقص: شرك وغيره، شرع يصف نفسه سبحانه بصفات الكمال من الأمر والخلق، ولما كان الأمر أقدم وأعلى، بدأ به، ولما كان من أمره إنزال الملائكة على الصورة التي طلبوها في قولهم

السابقالتالي
2