الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ إِلٰهُكُمْ إِلٰهٌ وَاحِدٌ فَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } * { لاَ جَرَمَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْتَكْبِرِينَ } * { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ }

ولما كانت أدلة البعث قد ثبت قيامها، واتضحت أعلامها، وعلا منارها، وانتشرت أنوارها، ساق الكلام فيها مساق ما لا خلاف إلا في العلم بوقته مع الاتفاق على أصله، لأنه من لوازم التكليف، ولما اتضح بذلك كله عجز شركائهم، أشار إلى أن منشأ العجز قبول التعدد، إرشاداً إلى برهان التمانع، فقال على طريق الاستئناف لأنه نتيجة ما مضى قطعاً: { إلهكم } أي أيها الخلق كلكم، المعبود بحق { إله } أي متصف بالإلهية على الإطلاق بالنسبة إلى كل أحد وكل زمان وكل مكان { واحد } لا يقبل التعدد - الذي هو مثار النقص - بوجه من الوجوه، لأن التعدد يستلزم إمكان التمانع المستلزم للعجز المستلزم للبعد عن رتبة الإلهية { فالذين } أي فتسبب عن هذا أن الذين { لا يؤمنون بالآخرة } أي دار الجزاء ومحل إظهار الحكم الذي هو ثمرة الملك والعدل الذي هو مدار العظمة { قلوبهم منكرة } أي جاهلة بأنه واحد، لما لها من القسوة لا لاشتباه الأمر - لما تقدم في هود من أن مادة " نكر " تدور على القوة وهي تستلزم الصلابة فتأتي القسوة { وهم } أي والحال أنهم بسبب إنكار الآخرة { مستكبرون * } أي صفتهم الاستكبار عن كل ما لا يوافق أهواءهم وهو طلب الترفع بالامتناع من قبول الحق أنفة من أهله، فصاروا بذلك إلى حد يخفى عليهم معه الشمس كما قال تعالى:ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون } [هود: 20] وربما دل { مستكبرون } على أن { منكرة } بمعنى " جاحدة ما هي به عارفة ".

ولما كانوا - لكون الإنسان أكثر شيء جدلاً - ربما أنكروا الاستكبار، وادعوا أنه او ظهر لهم الحق لأنابوا، قال على طريق الجواب لمن كأنه قال: إنهم لا يأبون استكباراً ما لا يشكون معه في أن هذا كلام الله { لا جرم } أي لا ظن في { أن الله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { يعلم } علماً غيبياً وشهادياً { ما يسرون } أي يخفون مطلقاً أو بالنسبة إلى بعض الناس. ولما كان علم السر لا يستلزم علم الجهر - كما مضى غير مرة، قال: { وما يعلنون } فهو أخبر بذلك إلا عن أمر قطعي لا يقبل المراء.

ولما كان في ذلك معنى التهديد، لأن المراد: فليجازينهم على دق ذلك وجهل من غير أن يغفر منه شيئاً - كما يأتي التصريح به في قوله:ليحملوا أوزارهم كاملة } [ النحل: 25] علل هذا المعنى بقوله: { إنه } أي العالم بالسر والعلن { لا يحب المستكبرين * } أي على الحق، كائناً ما كان.

ولما كان الطعن في القرآن - بما ثبت من عجزهم عن معارضته - دليل الاستكبار قال تعالى عاطفاً على قوله { قلوبهم منكرة }: { وإذا قيل } أي من أيّ قائل كان في أي وقت كان ولو تكرر { لهم } أي لمنكري الآخرة: { ماذا } أي أي شيء { أنزل ربكم } أي المحسن إليكم المدبر لأموركم { قالوا } مكابرين في إنزاله عادّين " ذا " موصولة لا مؤكدة للاستفهام: الذي تعنون أنه منزل ليس منزلاً، بل هو { أساطير الأولين } - مع عجزهم بعد تحديهم عن معارضة سورة منه مع علمهم بأنه أفصح الناس وأنه لا يكون من أحد من الناس متقدم أو متأخر قول إلا قالوا أبلغ منه.