الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا ٱلآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } * { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ }

ولما تم نصحه وعلا قدحه بإلقائه إليهما ما كان أهمّ لهما لو علما لمآله إلى الحياة الأبدية والرفعة السرمدية. أقبل على حاجتهما تمكيناً لما ذكره وتأكيداً للذي قرره، فناداهما بالأداة الدالة على أن ما بعدها كلام له موقع عظيم لتجتمع أنفسهما لسماع ما يلقى إليهما من التعبير، فقال: { ياصاحبي السجن } أي الذي تزول فيه الحظوظ ويحصل الانكسار للنفس والرقة في القلب فتتخلص فيه المودة.

ولما كان في الجواب ما يسوء الخباز، أبهم ليجوّز كل واحد أنه الفائز، فإن ألجأه إلى التعيين كان ذلك عذراً له في الخروج عن الأليق فقال: { أما أحدكما } وهو الساقي فيلخص ويقرب { فيسقي ربه } أي سيده الذي في خدمته { خمراً } كما كان { وأما الآخر } وهو الخباز.

ولما كان الذي له قوة أن يصلب إنما هو الملك، بنى للمفعول قوله: { فيصلب } ويعطب { فتأكل } أي فيتسبب عن صلبه أنه تأكل { الطير من رأسه } والآية من الاحتباك: ذكر ملزوم السلامة والقرب أولاً دليلاً على العطب ثانياً، وملزوم العطب ثانياً دليلاً على السلامة أولاً، وسيأتي شرح تعبيره من التوراة، فكأنه قيل: انظر جيداً ما الذي تقول! وروى أنهما قالا: ما رأينا شيئاً، إنما كنا نلعب، فقال مشيراً بصيغة البناء للمفعول إلى عظمة الله وسهولة الأمور عليه: { قضي الأمر } وبينه بقوله: { الذي فيه } أي لا في غيره { تستفتيان * } أي تطلبان الإفتاء فيه عملاً بالفتوة، فسألتما عن تأويله، وهو تعبير رؤياكما كذبتما أو صدقتما، لم أقله عن جهل ولا غلط. وما أحسن إيلاء هذا العلم الثابت لختم الآية السالفة بنفي العلم عن الأكثر، والأحد: المختص من المضاف إليه بمبهم له مثل صفة المضاف، ولا كذلك " البعض " فلا يصدق: رأيت أحد الرجلين - ألا برجل منهما، بخلاف " بعض " والفتيا: الجواب بحكم المعنى، وهو غير الجواب بعلته - ذكره الرماني. ولعل رؤيتهما تشيران إلى ما تشير إليه رؤيا الملك، فالعصير يشير إلى السنابل الخضر والبقر السمان، لأنه لا يكون إلا عن فضل، والخبز - الذي طارت به الأطيار، وسارت بروح صاحبه الأقدار -يشير إلى اليابسة والعجاف - والله أعلم.

ولما كان كل علم بالنسبة إلى علم الله عدماً، عبر عن علمه بالظن، ويمكن أن يكون الظن على بابه لكونه قال ما مضى اجتهاداً بقرائن فيؤخذ منه أنه يسوغ الجزم بما أدى إلى ظن، فقال: { وقال } أي يوسف عليه الصلاة والسلام { للذي ظن } مع الجزم بأنه أراد به العلم لقوله: { قضى الأمر } ، ويجوز أن يكون ضمير " ظن " للساقي، فهو حينئذ على بابه { أنه ناج منهما } وهو الساقي { اذكرني عند ربك } أي سيدك ملك مصر، بما رأيت مني من معالي الأخلاق وطهارة الشيم الدالة على بعدي مما رُميت به، والمراد بالرب هنا غير المراد به في قوله:

السابقالتالي
2 3