الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَأَمِنُوۤاْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ ٱللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } * { قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } * { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ٱتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }

ولما أخبر الله تعالى عن ارتباكهم في أشراك إشراكهم، وأنهم يتعامون عن الأدلة في الدنيا، وكان الأكثر المبهم القطع بعدم إيمانهم من توجيه الأمر والنهي والحث والزجر إلى الجميع وهم في غمارهم، وكان بعض الناس كالحمار لا ينقاد إلا بالعذاب، قال سبحانه وتعالى: { أفأمنوا } إنكاراً فيه معنى التوبيخ والتهديد { أن تأتيهم غاشية } أي شيء يغطيهم ويبرك عليهم ويحيط بهم { من عذاب الله } أي الذي له الأمر كله في الدنيا كما أتى من ذكرنا قصصهم من الأمم.

ولما كان العاقل ينبغي له الحذر من كل ممكن وإن كان لا يقربه، قال تعالى: { أو تأتيهم الساعة } وأشار إلى أشد ما يكون من ذلك على القلوب بقوله: { بغتة } أي وهم عنها في غاية الغفلة بعدم توقعها أصلاً؛ قال الرماني: قال يزيد بن مقسم الثقفي:

ولكنهم بانوا ولم أدر بغتة   وأفظع شيء حين يفجؤك البغت
ولما كان هذا المعنى مهولاً، أكده الله بقوله: { وهم لا يشعرون * } أي نوعاً من الشعور ولو أنه كالشعرة، إعلاماً بشدة جهلهم في أن حالهم حال من هو في غاية الأمن مما أقل أحواله أنه ممكن، لأن الشعور إدراك الشيء بما يلطف كدقة الشعر، وإنما قلت: إنه تأكيد، لأنه معنى البغتة؛ قال الإمام أبو بكر الزبيدي في مختصر العين: البغتة: المفاجأة، وقال الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه: فاجأت الرجل مفاجأة - إذا جئته على غفلة مغافصة، ثم قال: وفاجأته مفاجأة - إذا لقيته ولم يشعر بك، وفي ترتيب المحكم: فجئه الأمر وفجأه وفاجأه مفاجأة: هجم عليه من غير أن يشعر به، ويلزم ذلك الإسراع وهو مدار هذه المادة، لأنه يلزم أيضاً التغب - بتقديم المثناة محركاً وهو الهلاك، لأنه أقرب شيء إلى الإنسان إذ هو الأصل في حال الحدث، والسلامة فيه هي العجب، والتغب أيضاً: الوسخ والدرن، وتغب - بكسر الغين: صار فيه عيب، ويقال للقحط: تغبة - بالتحريك، والتغب - ساكناً: القبيح والريبة، وكل ذلك أسرع إلى الإنسان من أضداده إلا من عصم الله، وما ذاك إلا لأن هذه الدار مبينة عليه.

ولما وصف الله سبحانه له صلى الله عليه وسلم أكثر الناس بما وصف من سوء الطريقة للتقليد الذي منشؤه الإعراض عن الأدلة الموجبة للعلم، أمر أن يذكر طريق الخلّص فقال: { قل } أي يا أعلى الخلق وأصفاهم وأعظمهم نصحاً وإخلاصاً: { هذه } أي الدعوة إلى الله على ما دعا إليه كتاب الله وسننه صلى الله عليه وسلم { سبيلي } القريبة المأخذ، الجلية الأمر، الجليلة الشأن، الواسعة الواضحة جداً، فكأنه قيل: ما هي؟ فقال: { أدعوا } كل من يصح دعاؤه { إلى الله } الحائز لجميع الكمال حال كوني { على بصيرة } أي حجة واضحة من أمري بنظري الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة وترك التقليد الدال على الغباوة والجمود، لأن البصيرة المعرفة التي يتميز بها الحق من الباطل ديناً ودنيا بحيث يكون كأنه يبصر المعنى بالعين.

السابقالتالي
2 3 4 5 6