الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } * { قَالُواْ يٰشُعَيْبُ أَصَلَٰوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِيۤ أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ } * { قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ٱلإِصْلاَحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِيۤ إِلاَّ بِٱللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ }

ولما كان نظرهم بعد الشرك مقصوراً على الأموال، وكان نهيه عما نهى عنه موجباً لمحقها في زعمهم، كانوا كأنهم قالوا: إنا إذا اتبعناك فيما قلت فنيت أموالنا أو قلت فتضعضعت أحوالنا، فلا يبقى لنا شيء؟ فقال: { بقيت الله } أي فضل الملك الأعلى المستجمع لصفات الكمال، وبركته في أموالكم وجميع أحوالكم وإبقائه عليكم نظره إليكم الموجب لعفوه الذي هو ثمرة اتباع أمره { خير لكم } مما تظنونه زيادة بالنقص والظلم، وذلك أن بقية الشيء ما فضل منه، وتكون أيضاً بمعنى البقيا، من أبقى عليه يبقي إبقاء، واستبقيت فلاناً - إذا عفوت عن ذنبه، كأن ذلك الذنب أوجب فناء وده أو فناه عندك، فإذا استبقيته فقد تركت ما كان وجب، ويقولون: أراك تبقي هذا ببصرك - إذا كان ينظر إليه - قاله الإمام أبو عبد الله القزاز في ديوانه الجامع، وسيأتي في آخر السورة بيان ما تدور عليه المادة.

ولما كانت خيرية ما يبقيه العدل من الظهور بمحل لا يخفى على ذي لب، تركها وبين شرطها بقوله: { إن كنتم } أي جبلة وطبعاً { مؤمنين } أي راسخين في الإيمان إشارة إلى أن خيريتها لغير المؤمن مبنية على غير أساس، فهي غير مجدية إلا في الدنيا، فهي عدم لسرعة الزوال والنزوح عنها والارتحال، ودلت الواو العاطفة على غير مذكور أن المعنى: فآمنوا فاعلين ما أمرتكم به لتظفروا بالخير فإنما أنا نذير { وما أنا } وقدم ما يتوهمونه من قصده للاستعلاء نافياً له فقال: { عليكم } وأعرق في النفي فقال: { بحفيظ* } أعلم جميع أعمالكم وأحوالكم وأقدر على كفكم عما يكون منها فساداً؛ وأصل البقية ترك شيء من شيء قد مضى.

ولما كان الحاصل ما دعاهم إليه ترك ما كان عليه آباؤهم من السفه في حق الخالق بالشرك والخلائق بالخيانة، وكان ذلك الترك عندهم قطيعة وسفهاً، كان ذلك محكاً للعقول ومحزاً للآراء يعرف به نافذها من جامدها، فكان كأنه قيل: ما قالوا؟ فقيل: { قالوا يا شعيب } سموه باسمه جفاء وغلظة وانكروا عليه مستهزئين بصلاته { أصلواتك تأمرك } أي تفعل معك فعل من كان يأمر دائماً بتكليفنا { أن نترك ما يعبد } أي على سبيل المواظبة { آباؤنا أو } نترك { أن نفعل } أي دائماً { في أموالنا ما نشاء } من قطع الدرهم والدينار وإفساد المعاملة والمقامرة ونحوها مما يكون إفساداً للمال، يعنون أن ما تأمرنا به لا يمشي على منهاج العقل، فما يأمرك به إلا ما نراك تفعله من هذا الشيء الذي تسميه صلاة، أي أنه من وداي: فعلك للصلاة؛ ومادة صلا - واوية ويائية مهموزة وغير مهموزة بجميع تقاليبها - تدور على الوصلة، فالصلاة لصلة العبد بربه، وكذا الدعاء والاستغفار، وصلوات اليهود: كنائسهم اللاتي تجمعهم، والصلا: وسط الظهر ومجمعه وما حول الذنب أيضاً، والمصلى من الخيل: التابع للسابق، وصال الفحل - إذا حمل على العانة، ولصوت الرجل ولَصَيته: عبته، كأنك ألصقت به العيب، والواصلة واضحة في ذلك، وكأنها الحقيقة التي تفرعت منها جميع معاني المادة، وسيأتي شرح ذلك عند قوله تعالى { بالغدو والآصال } في سورة الرعد إن شاء الله، فمعنى الآية حينئذ: أما تعانيه من الصلوات: الحقيقية ذات الأركان، والمعنوية من الدعاء والاستغفار وجميع أفعال البر الحاملة على أنواع الوصل الناهية عن كل قطيعة تأمرك بمجاهرتنا لآبائنا بالقطيعة مع تقدير حضورهم ومشاهدتهم لما نفعل مما يخالف أغراضهم وبترك التنمية لأموالنا بالنقص وهو مع مخالفة أفعال الآباء تبذير فهو سفه - فدارت شبهتهم في الأمرين على تلقيد الآباء وتنزيههم عن الغلط لاحتمال أن يكون لأفعالهم وجه من الصواب خفي عنهم، وزادت في ألأموال بظن التبذير - فقد صرت بدعائنا إلى كل من الأمرين حينئذ داعياً إلى ضد ما أنت متلبس به { إنك } إذاً { لأنت } وحدك { الحليم } في رضاك بما يغضب منه ذوو الأرحام { الرشيد* } في تضييع الأموال، يريدون بهذا كما زعموا - سلخه من كل ما هو متصف به دونهم من هاتين الصفتين الفائقتين بما خيل إليهم سفههم أنه دليل عليه قاطع، وعنوا بذلك نسبته إلى السفه والغي على طريق التهكم.

السابقالتالي
2 3