الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ إِنِّيۤ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } * { وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ }

ولما انتهت القصة معلمة لما قام به لوط عليه السلام من أمر الله غير وانٍ لرغبة ولا رهبة وبما في إنزال الملائكة من الخطر، أتبعت أقرب القصص الشهيرة إليها في الزمن فقال تعالى: { *وإلى } أي ولقد أرسلنا إلى { مدين } وهم قبيلة أبيهم مدين بن إبراهيم عليه السلام { أخاهم شعيباً } فكأن قائلاً قال: ما قال لهم؟ فقيل: { قال } ما قال إخوانه من الأنبياء في البداءة بأصل الدين: { يا قوم } مستعطفاً لهم مظهراً غاية الشفقة { اعبدوا الله } أي الملك الأعلى غير مشركين به شيئاً لأنه واحد { ما لكم } وأغرق في النفي فقال: { من إله غيره } فلقد اتفقت - كما ترى - كلمتهم واتحدت إلى الله وحده دعوتهم، وهذا وحده قطعي الدلالة على صدق كل منهم لما علم قطعاً من تباعد أعصارهم وتنائي ديارهم وأن بعضهم لم يلم بالعلوم ولا عرف أخبار الناس إلا من الحي القيوم؛ قال الإمام شهاب الدين عمر بن محمد السهروردي في كتابه " رشف النصائح الإيمانية وكشف الفضائح اليونانية " في ذكر الأنبياء: اتحدت مصادرهم كأنهم بنيان مرصوص، عبروا بألسنة مختلفة تنتهي إلى بحر متصل بالقلوب متحد بها يستمد من البحر المحيط بعالمي الشهادة والغيب، واختلفت الموارد من الشرائع بحسب ما اقتضت الحكمة الإلهية من مصلحة أهل كل زمان وكل ملة، فما ضر اختلافهم في الفروع مع اتحادهم في الأصول، وقال قبل ذلك: إن الفلاسفة لما لم يغترفوا من بحار الأنبياء وقفت بهم أفراس أفكارهم في عالم الشهادة، فلما حاولوا الخوض في الإلهيات انكشفت عورة جهلهم وافتضحوا باضطرابهم واختلافهمتحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى } [الحشر: 14] القطع بهم سير الفكر في منتهى عالم الملك والشهادة، ولم يدخل إسكندر نظرهم ظلمات عالم الغيوب حتى يظفروا بعين الحياة التي من شرب منها لا يموت - انتهى.

ولما دعا إلى العدل فيما بينهم وبين الله، دعاهم إلى العدل فيما بينهم وبين عبيده في أقبح ما كانوا قد اتخذوه بعد الشرك ديدناً فقال: { ولا تنقصوا } أي بوجه من الوجوه { المكيال والميزان } لا الكيل ولا آلته ولا الوزن ولا آلته؛ والكيل: تعديل الشيء بالآلة في القلة والكثرة؛ والوزن: تعديله في الخفة والثقل، فالكيل للعدل في الكمية والوزن للعدل في الكيفية؛ ثم علل ذلك بقوله: { إني أراكم بخير } أي بسعة تغنيكم عن البخس - مرهباً ومرغباً بالإشارة إلى أن الكفر موجب للنقمة كما أن الشكر موجب للنعمة.

ولما كان كأنه قيل: فإني أخاف عليكم الفقر بالنقص، عطف عليه مؤكداً لإنكارهم: { وإني أخاف عليكم } به وبالشرك { عذاب يوم محيط* } بكم صغاراً وكباراً وبأموالهم طيباً وخبيثاً، أي مهلك كقولهوأحيط بثمره } [الكهف: 42] وأصله من إحاطة العدو، ووصف اليوم بالإحاطة أبلغ لأنه محيط بما فيه من عذاب وغيره، والعذاب محيط بالمعذب فذكر المحيط بالمحيط أهول، وهو الدائر بالشيء من كل جانب، وذلك يكون بالتقاء طرفيه؛ والنقصان: أخذ شيء من المقدار كما أن الزيادة ضم شيء إليه، وكلاهما خروج عن المقدار؛ والوزن، تعديل الشيء بالميزان، كما أن الكيل تعديله بالمكيال، ومن الإحاطة ما رواه ابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:

السابقالتالي
2