الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ أُولَـٰئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ ٱلْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } * { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } * { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ }

ولما هددهم بأمور الآخرة، أشار إلى بيان قدرته على ذلك في الدارين بقوله: { أولئك } أي البعداء عن حضرة الرحمة { لم يكونوا } أي بوجه من الوجوه { معجزين } وأشار إلى عجزهم بأنهم لا يقدرون على بلوغ العالم العلوي بقوله: { في الأرض } أي ما كان الإعجاز - وهو الامتناع من مراد الله - لهم ولا هو في قدرتهم، لأن قدره على جميع الممكنات على حد سواء.

ولما نفى التعذر بأنفسهم، نفاه من جهة غيرهم فقال: { وما كان لهم } ولما كانت الرتب التي هي دون عظمته سبحانه متكاثرة جداً، بين أنهم معزولون عن كل منها بإثبات الجار فقال: { من دون الله } أي الملك الأعظم، وأغرق في النفي بقوله: { من أوليآء } أي يفعلون معهم ما يفعل القريب من تولي المصالح والحماية من المصائب، ومن لم يقدر على الامتناع وهو حي لم يمتنع بعد موته فكأنه قيل: ماذا يفعل بهم؟ فقيل: { يضاعف } أي يفعل فيه فعل من يناظر آخر في الزيادة، وبناه للمفعول لأن المرجع وجود المضاعفة مطلقاً { لهم العذاب } أي بما كانوا يضاعفون المعاصي؛ ثم علل سبب المضاعفة بأنه خلق لهم سمعاً وبصراً فضيعوهما بتصامّهم عن الحق وتعاميهم عنه، فكأن لا فرق بينهم وبين فاقدهما فقال: { ما كانوا } أي بما لهم من فساد الجبلات { يستطيعون السمع } أي يقدرون لما غلب على فطرهم الأولى السليمة بانقيادهم للهوى من التخلق بنقائص الشهوات على أن توجد طاعته لهم فما كانوا يسمعون { وما كانوا } يستطيعون، الإبصار فما كانوا { يبصرون } حتى يعرضوا عن الشهوات فتوجد استطاعتهم للسمع والإبصار، وهو كناية عن عدم قبولهم للحق وأن شدة إعراضهم عنه وصلت إلى حد صارت فيه توصف بعدم الاستطاعة كما يقول الإنسان لما تشتد كراهته له: هذا مما لا أستطيع أن أسمعه، وتكون المضاعفة بالكفر والصد، ونفي الاستطاعة أعرق في العيب وأدل على النقص وأنكأ من نفي السمع لأنهم قد يحملونه على الإجابة، وأما نفي البصر فغير منفك عن النقص سواء كان للعين أو للقلب، هذا إن لم تخرج الآية على الاحتباك، وإن خرجت عليه استوى الأمران، وصار نفي الاستطاعة أولاً دالاًّ على نفيها ثانياً، ونفي الإبصار يدل على نفي السمع أولاً.

ولما ثبت أنهم لا سمع ولا بصر، ثبت أنهم لا شيء فقال: { أولئك } أي البعداء البغضاء { الذين خسروآ أنفسهم } أي بتضييع الفطرة الأولى التي هي سهولة الانقياد للخير وصعوبة الانقياد للشر؛ ولما كان العاجز ربما نفعه من كان يخدمه فيكسبه قوة بعد الضعف ونشاطاً بعد العجز، نفى ذلك بقوله عائداً إلى نفي النفع ممن عذرهم أولاً على أحسن وجه: { وضل عنهم ما كانوا } أي كوناً جبلوا عليه فصاروا لا ينفكون عنه { يفترون } أي يتعمدون كذبه مما ادعوا كونهم آلهة، ولا شك أن من خسر نفسه ومن خسرها من أجله بادعاء أنه شريك لخالقه ونحو ذلك كان أخسر الناس، فلذلك قال: { لا جرم } أي لا شك { أنهم } أي هؤلاء الذي بالغوا في إنكار الآخرة { في الآخرة } ولما كان المقام جديراً بالمبالغة في وصفهم بالخسارة، أعاد الضمير فقال: { هم } أي خاصة { الأخسرون } أي الأكثرون خسراناً من كل من يمكن وصفه بالخسران؛ والإعجاز: الامتناع من المراد بما لا يمكن معه إيقاعه؛ والمضاعفة: الزيادة على المقدار بمثله أو أكثر؛ والاستطاعة: قوة ينطاع بها الجوارح للفعل؛ وأما " لا جرم " فقد اضطرب علماء العربية في تفسيرها، قال الرضي في شرح الحاجبية والبرهان السفاقسي في إعرابه ما حاصله: والغالب بعد { لا جرم } الفتح، أي في { أن } ، فـ { لا } إما رد الكلام السابق - على ما هو مذهب الخليل - أو زائدة كما في { لا أقسم } لأن في جرم معنى القسم، وهي فعل ماض عند سيبويه والخليل مركبة مع " لا " ، وجعلها سيبويه فعلاً بمعنى حق، فـ " أن " " فاعله " ، وقيل: " جرم " بمعنى حق، وهو اسم لا و " أنهم " خبره؛ وقال الكسائي معناها: لا صد ولا منع؛ وعن الزجاج أنها غير مركبة، ولا نفي لما قيل من أن لهم أصناماً تنفعهم، وجرم - فعل ماض بمعنى كسب وفاعله مضمر معبر به عن فعلهم، و { أنهم } مفعولة؛ وقال الفراهي: كلمة كانت في الأصل بمعنى لا بد ولا محالة، لأنه يروي عن العرب " لا جرم " - يعني بضم ثم سكون، والفعل - يعني هكذا، والفعل - يعني محركاً، يشتركان في المصادر كالرشد والرعد والبخل؛ والجرم: القطع، أي لا قطع من هذا كما أنه لا بد بمعنى لا قطع، فكثرت وجرت على ذلك حتى صارت بمعنى القسم، فلذلك يجاب بما يجاب به القسم، فيقال: لا جرم لآتينك، ولا جرم أنك قائم، فمن فتح فللنظر إلى أصل { لا جرم } كما نقول: لا بد أن نفعل كذا وأنك تفعل، أي من أن ومن أنك تفعل، ومن كسر فلمعنى القسم العارض في { لا جرم } - انتهى.

السابقالتالي
2