ولما نهي عن الإفراط في الدين، أتبعه النهي عن التفريط بالتقصير فيه بسفول الهمم على وجه عام، وكان الحب في الله والبغض منه أوثق عرى الإيمان، إشارة إلى ضده الذي هو أوثق عرى الشيطان فقال: { ولا تركنوا } أي شيئاً من ركون، وقال: { إلى الذين ظلموا } أي وجد منهم الظلم ولم يقل الظالمين، أي بالميل إليهم بأن تثاقل أنفسكم نحوهم للميل إلى أعمالهم ولو بالرضى به والتشبه بهم والتزيّي بزيهم، وحاصل الآيتين: لا تظلموا بأنفسكم ولا تستحسنوا أفعال الظالمين، وفسر الزمخشري الركون بالميل اليسير، وهو حسن من جهة المعنى لكني لن أره لغيره من أهل اللغة، وقال الرماني - وهو أقرب: الركون: السكون إلى الشيء بالمحبة والانصباب إليه، ونقيضه النفور عنه. وهو على التفسير الثاني في { تطغوا } من عطف الخاص على العام، والآية ملتفتة إلى قوله تعالى { فلعلك تارك بعض ما يُوحى إليك } { فتمسكم النار } أي فتسبب عن ركونكم إليهم مسُّها لكم فلا تقدروا على التخلص منها بنوع حيلة من أنفسكم؛ ومن إجلال النبي صلى الله عليه وسلم إفراده بالخطاب في الأمر بأفعال الخير، والإتيان بضمير الجمع في النهي عن أفعال الشر - نبه على ذلك الإمام أبو حيان. ولما كان كل موجود سوى الله في قهره وتحت أمره، قال تعالى: { وما لكم } ولما كان دون رتبته تعالى من الرتب والذوات ما لا يحصيه غيره سبحانه، أدخل الجار تبعيضاً فقال: { من دون الله } أي الملك لأعظم، وأعرق في النفي فقال: { من أولياء } أي يخلصونكم من عذابه لما تقرر أن { دون } من الأدون وهو الأقرب إلى جهة السفل؛ والولي: المختص بأن من شأنه تولي المعونة عند الحاجة، وأشار إلى أن نصر مَنْ لا ناصر له من الله محال بأداة البعد وبناء للمفعول فقال: { ثم لا تنصرون* } أي ثم إذاً فإنكم هذا وذاك فما أبعدكم من النصرة! ولما كان العلم حاصلاً بما سبق من الحكم من أن الآدمي محل العجز والتقصير، أتبع ذلك بأعلى مكفر لما يوجبه العجز ويقضي به الفتور والوهن من الصغائر وأعمه وأجلبه للاستقامة، وذلك يدل على أنها بعد الإيمان أفضل العبادات، فقال تعالى: { وأقم الصلاة } أي اعملها على استواء { طرفي النهار } بالصبح والعصر كما كان مفروضاً بمكة في أول الأمر قبل الإسراء، ويمكن أن يراد مع ذلك الظهر لأنها من الطرف الثاني { وزُلفاً } أي طوائف ودرجات وأوقات، جمع زلفة { من الَّيل } يمكن أن يكون المراد به التهجد، فقد كان مفروضاً في أول الإسلام، ويمكن أن يراد المغرب والعشاء مع الوتر أو التهجد؛ ثم علل ذلك بقوله: { إن الحسنات } أي الطاعات كلها الصلاة وغيرها المبنية على أساس الإيمان { يذهبن السيئات } أي الصغائر، وأما الكبائر التي يعبر عنها بالفواحش ونحوه فقد تقدم في قصة شعيب عليه السلام عند قوله { ثم توبوا إليه } أنه لا يكفرها إلا التوبة لما فيها من الإشعار بالتهاون بالدين، واجتنابها لا يكفر إلا إذا كان عن نية صالحة كما أفهمه صيغة الافتعال من قوله