الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ فَمَا ٱخْتَلَفُواْ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }

ولما ذكر تعالى عاقبة أمر فرعون وقومه وأنهم لم ينتفعوا بما جاءهم من البينات مع ما كان فيها من جلي البيان وفي بعضها من الشدائد والامتحان حتى كان آخرها أنه لما رأى مبدأ الهلاك من انفراق البحر لم يزعه عن لجاجه غفلة منه عن عاقبته. وختمها بالإخبار بكثرة الغفلة إشارة إلى أن هذا الخلق في غير القبط أيضاً، أتبع ذلك ذكر خاتمة أمر بني إسرائيل فيما خولهم فيه بعد الإنجاء من النعم المقتضي للعلم القطعي بأنه لا إله غيره، وأن من خالفه كان على خطر الهلاك، وأنهم - مع مشاهدتهم الآيات الآتيه بسببهم إلى فرعون - آتاهم من الآيات الخاصة بهم المنجزة لصدق وعده سبحانه لآبائهم ما فيه غاية الإحسان إليهم والإكرام لهم، وأنهم كانوا تحت يد فرعون على طريق واحد، ليس بينهم خلاف، وما اختلفوا فصاروا فرقاً في الاعتقادات وأحزاباً في الديانات حتى جاءهم العلم الموضح من الله، فكان المقتضي لاجتماعهم على الله مفرقاً لهم على سبيل الشيطان لخبث سرائرهم وسوء ضمائرهم وقوفاً مع الشاهد الزائل وجموداً مع المحسوس الفاني ونسياناً للغائب الثابت والمعلوم المتيقن، كل ذلك لأنا قضينا به فالأمر تابع لما نريد، لا لما يأمر به وينهى عنه، فكان أعظم زاجر عن طلب الآيات وظن أنها توجب له الرد على الغوايات، فقال تعالى: { ولقد بوأنا } أي أسكنا بما لنا من العظمة التي تنقطع الأعناق دون عليائها وتتضاءل ثواقب الأفكار عن إحصائها { بني إسراءيل } مسكناً هو أهل لأن يرجع إليه من خرج عنه، وهو المراد بقوله: { مبوأ صدق } أي في الأرض المقدسة لأن وعدنا كان قد تقدم لهم بها وعادة العرب أنها إذا مدحت الشيء أضافته إلى الصدق لأنه مع ثباته حبيب إلى كل نفس ويصدق ما يظن به من الخير.

ولما كان المنزل لا يطيب إلا بالرزق، وكان التعبير عنه بالمبوإ دالاً على الرزق بدلالة الالتزام، صرح به فقال: { ورزقناهم } أي بما لنا من العظمة { من الطيبات } أي الحسية حلاء واشتهاء من الفواكة والحبوب والألبان والأعسال وغيرها. والمعنوية من الشريعة والكتاب والمعارف كما تقدم وعدنا لآبائهم بذلك. ولما كانوا كغيرهم إذا كانوا على أمور يتواضعون عليها تقاربوا فيها وتوافقوا، وإذا كانوا على حدود حدها لهم المحسن إليهم وحده لم يلبثوا أن يختلفوا عابهم الله بذلك فقال: { فما } أي فتسبب عن صدقنا لهم في الوعد أنهم ما { اختلفوا } أي أوقعوا الخلف المفضي إلى جعل كل منهم صاحبه خلفه ووراء ظهره. واستهان به { حتى جاءهم العلم } الموجب لاجتماعهم على كلمة واحدة لما له من الضبط حتى يكون أتباعه على قلب واحد. فكأنه قيل: فماذا يفعل بهم؟ لا هم بعقولهم ينتفعون ولا بما جاءهم من الحق يرجعون؟ فقيل مؤكداً لإنكار العرب البعث: { إن ربك } أي المحسن إليك بإصاء الأنبياء بك ووصفك في كتبهم وجعلك صاحب لواء الحمد في القيامة { يقضي بينهم }.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8