الرئيسية - التفاسير


* تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ ٱللَّهُ يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } * { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ قُلِ ٱللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيۤ إِلاَّ أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } * { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ }

ولما علم أنهم معترفون بأمر الهداية وما يتبعها من الرزق والتدبير أعاد سبحانه السؤال عنها مقرونة بالإعادة تنبيهاً لهم على ما يتعارفونه من أن الإعادة أهون، فإنكارها مع ذلك إما جمود أو عناد، وإنكار المسلمات كلها هكذا، وسوقه على الطريق الاستفهام أبلغ وأوقع في القلب فقال: { قل } أي على سبيل الإنكار عليهم والتوبيخ لهم { هل من شركائكم } أي الذين زعمتموهم شركاء لي وأشركتموهم في أموالكم من أنعامكم وزروعكم { من يبدأ الخلق } كما بدأته ليصح لهم ما ادعيتم من الشركة { ثم يعيده }.

ولما كان الجواب قطعاً من غير توقف. ليس فيهم من يفعل شيئاً من ذلك، وكان لجاجهم في إنكار الإعادة وعنادهم لا يدعهم انة يجيبوا بالحق، أمره بجوابهم بقوله: { قل الله } أي الذي له الأمر كله { يبدأ الخلق } أي مهما أراد { ثم يعيده } وأتى هنا بجزئي الاستفهام وكذا ما يأتي في السؤال عن الهداية تأكيداً للأمر بخلاف ما اعترفوا به، فإنه اكتفى فيه بأحد الجزأين في قوله { فسيقولون الله } ولم يقل: يرزقنا - إلى آخره؛ ثم زاد في تبكيتهم على عدم الإذعان لذلك بالتعجيب منهم في قوله: { فأنى تؤفكون* } أي كيف ومن أي جهة تصرفون بأقبح الكذب عن وجه الصواب من صارف ما، وقد استنارت جميع الجهات،ورتب هذه الجمل أحسن ترتيب، وذلك أنه سألهم أولاً عن سبب دوام حياتهم وكمالها بالرزق والسمع والبصر وعن بدء الخلق في إخراج الحي من الميت وما بعده، وكل ذلك تنبيهاً على النظر في أحوال أنفسهم مرتباً على الأوضح فالأوضح، فلما اعترفوا به كله أعاد السؤال عن بدء الخلق ليقرن به الإعادة تنبيهاً على أنهما بالنسبة إلى قدرته على حد سواء، فلما فرغ مما يتعلق بأحوال الجسد أمره أن يسألهم عن غاية ذلك، والمقصود منه من أحوال الروح في الهداية التي في سبب السعادة إمعاناً في الاستدلال بالمصنوع على الصانع على وجه مشير إلى التفضيل فقال: { قل } أي يا أفهم العباد وأعرفهم بالمعبود { هل من شركائكم } أي الذين زعمتم أنهم شركاء لله، فلم تكن شركتهم إلا لكم لأنكم جعلتم لهم حظاً من أموالكم وأولادكم { من يهدي } أي بالبيان أو التوفيق ولو بعد حين { إلى الحق } فضلاً عن أن يهدي للحق على أقرب ما يكون من الوجود إعلاماً.

ولما كانوا جاهلين بالجواب الحق في ذلك أو معاندين، أمره أن يجيبهم معرضاً عن انتظار جوابهم آتياً بجزئي الاستفهام أيضاً فقال: { قل الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة { يهدي } ولما كان قادراً على غاية الإسراع، عبر باللام فقال: { للحق } إن أراد، ويهدي إلى الحق من يشاء، لا أحد ممن زعموهم شركاء، فالاشتغال بشيء منها بعبادة أو غيرها جهل محض واختلال في المزاج كبير، فالآية من الاحتباك: ذكر { إلى الحق } أولاً دليلاً على حذفه ثانياً، و { للحق } ثانياً دليلاً على حذفه أولاً، فتسبب عن ذلك إنكار أتباعهم لهم فقال: { أفمن يهدي } أي منتهياً في هداه ولو على بعد { إلى الحق } أي الكامل الذي لا زيغ فيه بوجه ولو على أبعد الوجوه { أحق أن يتبع } أي بغاية الجهد { أم من لا يهدي } أي يهتدي فضلاً عن أن يهدي غيره إلى شيء من الأشياء أصلاً ورأساً؛ وإدغام تاء الافتعال للإيماء إلى انتفاء جميع أسباب الهداية حتى أدانيها، فإن التاء عند أرباب القلوب معناها انتهاء التسبب إلى أدناه { إلا أن يهدى } أي يهديه هاد غيره كائناً من كان، وهذا يعم كل ما عبد من دون الله من يعقل وممن لا يعقل؛ فلما أتم ذلك على هذا النهج القويم كان كأنه قيل: أتجيبون أم تسكتون؟ وإذا أجبتم أتؤثرون الحق فترجعوا عن الضلال أم تعاندون، تسبب عن ذلك سؤالهم عى وجه التوبيخ بقوله: { فما } اي أيّ شيء ثبت { لكم } في فعل غير الحق من كلام أو سكوت؛ ثم استأنف تبكيتاً آخر فقال: { كيف تحكمون* } فيما سألناكم عنه مما لا ينبغي أن يخفى على عاقل، أبالباطل أم بالحق؟ فقد تبين الرشد من الغي؛ والبدء:العقل الأول؛ والإعادة: إيجاد الشيء ثانياً؛ والهداية: التعريف بطريق الرشد من الغي.

السابقالتالي
2