الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ وَٱلْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ ٱللَّهِ فَٱسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } * { ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ٱلْحَامِدُونَ ٱلسَّائِحُونَ ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱلْحَافِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } * { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوۤاْ أُوْلِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ } * { وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } * { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } * { إِنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ }

قوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } الآية.

لمَّا شرح أحوال المنافقين، عاد إلى بيانِ فضيلة الجهادِ. قيل: هذا تمثيلٌ كقوله تعالىأُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرُواْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } [البقرة:16] قال مُحمَّدُ بن كعب القرظيُّ: " لمَّا بايعت الأنصارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة بمكَّة وهم سبعون نفساً، قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله اشترط لربِّك ولنفْسِكَ ما شئتَ. فقال: " أشترطُ لربِّي أن تعبُدُوهُ ولا تُشرِكُوا بِهِ شَيْئاً ولنفْسِي أن تمنعوني ممَّا تمنعون منه أنفسكُم وأموالكُم " قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: " الجنَّة " قالوا ربح البيعُ لا نقيلُ ولا نستقيلُ " ، فنزل: { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ }.

قال الحسنُ، ومجاهدٌ، ومقاتل: " ثامنَهُم فأغْلَى ثمنهُمْ ".

قوله: " بِأَنَّ لَهُمُ " متعلقٌ بـ " اشْتَرى " ، ودخلت الباءُ هنا على المترُوكِ على بابها، وسمَّاها أبُو البقاءِ " باء " المقابلةِ، كقولهم: " باء " العوض، و " باء " الثمنية. وقرأ عمرُ ابنُ الخطاب والأعمش " بِالجنَّةِ ". قال أهلُ المعاني: لا يجوزُ أن يشتري الله شيئاً في الحقيقة؛ لأنه مالك الكل، ولهذا قال الحسنُ: اشترى أنفساً هو خلقها، وأموالاً هو رزقها، وإنَّما ذكر اللهُ ذلك، لحسن التَّلُّطفِ في الدُّعاءِ إلى الطَّاعةِ؛ لأن المؤمنَ إذا قاتل في سبيل اللهِ حتى يقتل؛ فتذهب روحه، وينفق ماله في سبيل الله تعالى جزاؤه في الآخرة الجنَّة، فكان هذا استبدالاً وشراءً. قال الحسنُ: " والله بيعة رَابحةٌ، وكفةٌ راجحةٌ، بايع اللهُ بها كلَّ مُؤمِنٍ والله ما على الأرض مؤمن إلاَّ وقد دخل في هذه البيعة ".

وفيه لطيفةٌ، وهي أن المشتري لا بدَّ وأن يغاير البائع، وههنا البائعُ هو اللهُ تعالى، والمشتري هو الله، وهذا إنما يصحُّ في حقِّ القيم بأمر الطفل الذي لا يمكُنُه رعاية المصالح في البيع والشراء وصحَّة هذا البيع مشروطة برعاية الغبطة؛ فهذا جارٍ مجرى التَّنبيه على كون العبد كالطِّفلِ الذي لا يهتدي إلى رعاية مصالح نفسه؛ وأنَّهُ تعالى هو الرَّاعي لمصالحه بشرط الغبطةِ.

فصل

قال القرطبيُّ: " هذه الآية دليلٌ على جواز معاملة السيد مع عبده، وإن كان الكل للسَّيد، لكن إذا ملكه عامله فيما جعل إليه، وجاز بين السيد وعبده ما لا يجوزُ بينه وبين غيره؛ لأنَّ ماله له، وله انتزاعه ".

فصل

أصل الشراءِ من الخلق أن يعوضوا بما خرج من أيديهم ما كان أنفع لهم، أو مثل ما خرج عنهم في النفع، فاشترى الله من العباد إتلاف أنفسهم، وأموالهم في طاعته، وإهلاكها في مرضاته وأعطاهم الجنَّة عوضاً عنها إذا فعلوا ذلك، وهو عوض عظيمٌ لا يدانيه المعوض، فأجرى ذلك على مجرى ما يتعارفونه في البيع والشراء، فمن العبد تسليم النفس والمال، ومن الله الثَّواب والنَّوال فسمّي هذا شراء.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9