الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ } * { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ } * { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } * { وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُوراً } * { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ } * { فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً } * { وَيَصْلَىٰ سَعِيراً } * { إِنَّهُ كَانَ فِيۤ أَهْلِهِ مَسْرُوراً } * { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } * { بَلَىٰ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً }

قوله: { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ }.

قيل: المراد جنس الإنسان، كقولك: يا أيها الرجل، فكان خطاباً خص به كل واحد من الناس.

قال القفال: وهو أبلغ من العموم؛ لأنه قائم مقام التنصيص على مخاطبة كل واحد منهم على التعيين، بخلاف اللفظ العام.

وقيل: المراد منه رجل بعينه، فقيل: هو محمد - عليه الصلاة والسلام -، والمعنى: أنك تكدح في إبلاغ رسالات الله - تعالى - وإرشاد عباده، وتحمل الضرر من الكفَّار، فأبشر فإنك تلقى الله بهذا العمل.

وقال ابنُ عبَّاسٍ: هو أبيّ بن خلفٍ، وكدحه: هو جده واجتهاده في طلب الدنيا، وإيذاء الرسول - عليه الصلاة والسلام - والإصرار على الكفر.

فصل في المراد بالكدح

الكَدْحُ: قال الزمخشريُّ: جَهْدُ النفس، والكدْم فيه حتى يؤثر فيها، ومنه كدح جلدهُ إذا خدشه، ومعنى " كادح " أي: جاهد إلى لقاء ربك وهو الموت. انتهى. وقال ابن نفيلِ: [الطويل]
5137- ومَا الدَّهْرُ إلاَّ تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا   أمُوتُ، وأخرَى أبْتَغِي العَيْشَ أكْدَحُ
وقال آخر: [الكامل]
5138- ومَضَتْ بَشَاشَةُ كُلِّ عَيْشٍ صالحٍ   وبَقِيتُ أكْدَحُ لِلْحياةِ وأنْصَبُ
وقال الراغب: وقد يستعمل الكدح دون الكلام بالأسنان.

وقال الخليل: الكدحُ دون الكدم.

فصل في معنى الآية

معنى " كادحُ إلى ربِّك " أي: ساع إليه في عملك.

والكدحُ: عمل الإنسان وجهده في الخير والشر.

قال قُتَادةُ والكلبيُّ والضحاكُ: عامل لربك عملاً، وقوله تعالى: { إِلَىٰ رَبِّكَ } أي: إلى لقاء ربك، وهو الموت، أي: هذا الكدح استمر إلى هذا الزمن.

وقال القفال: تقديره: أنك كادح في دنياك مدحاً تصير به إلى ربك.

قوله: " فمُلاقِيهِ ": يجوز أن يكون عطفاً على [ " إنك] كادح " ، والسبب فيه ظاهر، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمرٍ، أي: فأنت ملاقيه، وقد تقدم أنه يجوز أن يكون جواباً للشرط.

وقال ابن عطية: فالفاء على هذا عاطفة جملة الكلام على التي قبلها، والتقدير: فأنت ملاقيه. يعني بقوله: " على هذا " أي: على عود الضَّمير على كدحكَ.

قال أبو حيَّان: " ولا يتعين ما قاله، بل يجوز أن يكون من عطف المفردات ".

والضميرُ في " فملاقيه ": إمَّا للربِّ، أي: ملاقي حكمه لا مفر لك منه. قاله الزجاج.

وإمَّا لـ " الكدح " إلا أن الكدحَ عمل، وهو عرض لا يبقى، فملاقاته ممتنعة، فالمراد: جزاءُ كدحكَ.

وقال ابنُ الخطيب: المراد: ملاقاة الكتاب الذي فيه بيان تلك الأعمال، ويتأكد هذا بقوله بعده: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ }.

قوله: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } ، أي: ديوان أعماله بيمينه.

{ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } ، " سوف " من الله واجب، كقول القائل: اتبعني فسوف تجد خيراً، فإنه لا يريد الشك، وإنما يريد تحقيق الكلام، والحساب اليسير: هو عرض أعماله، فيثاب على الطاعة، ويتجاوزُ عن المعصيَّةِ، ولا يقال: لم فعلت هذا، ولا يطالبُ بالحُجَّةِ عليه.

السابقالتالي
2 3