الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } * { لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ ٱلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ }

قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ } الآية.

لمَّا شرح أحوال الكفَّار في طاعاتهم البدنية، أتبعها بشرح أحوالهم في الطَّاعات الماليَّةِ.

قال مقاتل والكلبيُّ: نزلت في المُطعمين يوم بدر، وكانوا اثني عشر رجلاً من كبار قريش، كان يطعم كلُّ واحد منهم كل يوم عشر جزر.

وقال سعيدُ بن جبيرٍ: نزلت في أبي سفيان وإنفاقه المال على حرب محمد يوم أحد، وكان قد استأجر ألفين من الأحابيش سوى من استجاش من العربِ، وأنفق عليهم أربعين أوقية، والأوقية: اثنان وأربعون مثقالا، هكذا قاله الزمخشريُّ. ثُم بيَّن تعالى أنهم إنَّما ينفقون المال: { ليصُدُّوا عن سبيلِ اللَّه } أي: غرضهم من الإنفاق الصد عن اتباع محمد وهو سبيل الله، وإن لم يكن عندهم كذلك.

قال: { فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } أي: أنَّ هذا الإنفاق يكون عاقبته حسرة؛ لأنَّهُ يذهب المال ولا يحصل المقصودُ، بل يغلبون في آخر الأمر. { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } وإنَّما خصَّ الكفار، لأن فيهم من أسلم.

قوله { لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ } قد تقدَّم الكلامُ فيه في آل عمران: [179]. والمعنى: ليميزَ اللَّهُ الفريق الخبيث من الكُفَّارِ من الفريق الطَّيب من المؤمنين، فيجعل الفريق الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً، أي: يجمعهم ويضمُّهم حتَّى يتراكموا.

" أولَئِكَ " إشارةً إلى الفريق الخبيثِ، وقيل: المرادُ بالخبيثِ: نفقة الكَافِرِ على عداوة محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام -، وبالطَّيِّب: نفقة المؤمن في جهاد الكفار، كإنفاقِ أبي بكر وعثمان في نصرة الرسول - عليه الصلاة والسلام -، فيضم تعالى تلك الأموال الخبيثة بعضها إلى بعض فيلقيها في جهنَّم، ويعذبهم بها، كقوله تعالى:فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ } [التوبة: 35] فاللاَّمُ في قوله { لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ } على القول الأوَّلِ متعلقة بقوله تعالى: { يُحْشَرُونَ } أي: يحشرون ليميز اللَّهُ الفريق الخبيث من الفريق الطيب، وعلى القول الثاني متعلقة بقوله: { ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } و " يَجْعَلَ " يحتمل أن تكون تصييريةً، فتنصبَ مفعولين، وأن تكون بمعنى الإلقاء، فتتعدَّى لواحد، وعلى كلا التقديرين فـ " بَعْضَهُ " بدل بعضٍ من كل، وعلى القول الأوَّلِ يكون " عَلَى بعضٍ " في موضع المفعول الثَّاني، وعلى الثَّاني يكون متعلقاً بنفس الجَعْل، نحو قولك: ألقَيْتَ متاعك بعضه على بعض.

وقال أبُو البقاءِ، بعد أن حكم عليها بأنَّها تتعدَّى لواحدٍ:

" وقيل: الجار والمجرور حالٌ تقديره: ويجعل الخبيث بعضه عالياً على بعض ".

ويقال: مَيَّزْتُه فتمَيَّزَ، ومزْتُه فانمازَ، وقرىء شاذاً: { وانْمَازُوا الْيَوْمَ } [يس: 59]؛ وأنشد أبو زيدٍ: [البسيط]
2706 - لمَّا نَبَا اللَّهُ عَنِّي شرَّ غُدْرَتِهِ   وانْمَزْتُ لا مُنْسِئاً ذُعْراً ولا وَجِلا
وقد تقدَّم الفرق بين هذه الألفاظ في آل عمران [179].

قوله " فَيَرْكُمَهُ " نسقٌ على المنصوبِ قبله، والرَّكْمُ جمعك الشَّيء فوق الشيء، حتى يصير رُكَاماً مركوماً كما يُركم الرمل والسحاب، ومنه:سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } [الطور: 44] والمُرْتَكَم: جَادَّة الطريق للرَّكْم الذي فيه أي: ازدحام السَّبابلة وآثارهم، و " جَمِيعاً " حالٌ، ويجوزُ أن يكون توكيداً عند بعضهم ثم قال تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } إشارة إلى الذين كفرُوا.