الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ } * { قُمْ فَأَنذِرْ } * { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } * { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } * { وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ } * { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } * { وَلِرَبِّكَ فَٱصْبِرْ }

قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ }؛ يا أيها الذي قد دثر ثيابه، أي: تغشى بها ونام.

وقرأ العامة: بتشديد الدال وكسر الثاء، اسم فاعل من " تدثَّر " وأصله: المتدثر فأدغم كـ " المزمّل ". وفي حرف أبي: " المتدثر " على الأصل المشار إليه.

وقرأ عكرمة: بتخفيف الدال، اسم فاعل من " دثّر " - بالتشديد - ويكون المفعول محذوفاً أي: المدثر نفسه، كما تقدم.

وعنه أيضاً: فتح الثاء.

ومعنى " تَدثَّر " لبس الدِّثَار، وهو الثوب الذي فوق الشِّعار، " والشِّعَار ": ما يلي الحسد، وفي الحديث: " الأنْصَارُ شِعَارٌ والنَّاسُ دِثَارٌ ".

و " سيف دَاثِر ": بعيد العَهْد الصِّقال.

ومنه قيل للمنزل الدارس: داثر لذهاب أعلامه وفلان داثرُ المال، أي: حسن القيام به.

قوله: " قُمْ " إما أن يكون من القيام المعهود، فيكون المعنى: قم من مضجعك، وإما من " قام " بمعنى الأخذ في القيام، كقوله: [الطويل]
4944 - فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسيْفِهِ   .....................
وقوله: [الوافر]
4945 - عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمُ   .......................
في أحد القولين، فيكون المعنى: قيام عزم وتصميم، والقول الآخر: أن " قام " مزيدة، وفي جعلها بمعنى الأخذ في القيام نظر؛ لأنه حينئذ يصير من أخوات " عَسَى " فلا بد له من خبر يكون فعلاً مضارعاً مجرداً.

قوله: { فَأَنذِرْ } ، مفعوله محذوف، أي: أنذر قومك عذاب الله، والأحسن أن لا يقدر له، أي: أوقع الإنذار.

فصل في معنى الآية

المعنى: يا أيها الذي قد دُثِّر ثيابه، أي: تغشى بها ونام.

وقيل: ليس المراد التدثر بالثوب، فإن قلنا التدثر، ففيه وجوه:

أحدها: أن هذا من أوائل ما نزل من القرآن.

روى جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كُنْتُ عَلى جَبلِ حِراءَ، فنُودِيتُ يا مُحَمَّدُ، إنَّكَ لرَسُولٌ، فنَظرْتُ عَنْ يَمِينِي، ويسَارِي، فَلمْ أرَ أحَداً فنَظرْتُ فَوْقِي فَرأيتُ المَلكَ الذي جَاءَنِي بحِراءَ جَالِساً عَلى كُرسِي بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، فَخِفْتُ فَرجَعْتُ إلى خَدِيْجَةَ، فقلتُ: دَثِّرُوني، وصبُّوا عليَّ ماءاً بارداً " فأنزلَ اللَّهُ تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ }.

وثانيها: أن أبا جهل، وأبا لهب، وأبا سفيان، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، وأميَّة بن خلف، والعاص بن وائل والمطعم بن عدي، اجتمعوا وقالوا: إنَّ وفود العرب مجتمعون في أيام الحج، وهم يسألون عن أمر محمدٍ صلى الله عليه وسلم وقد اختلفتم في الإخبار عنه، فمن قائل هو مجنون. وقائل: كاهن. وقائل: ساحر، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع في رجل واحد، فيستدلون باختلاف الأجوبة على أنها أجوبة باطلة، فسمُّوا محمداً باسم واحد يجتمعون عليه، وتسميه العرب به فقدم رجل منهم فقال: إنه شاعر، فقال الوليد: سمعت كلام عبيدة بن الأبرص [وكلام أمية بن أبي الصلت، وكلامه ما يشبه كلامهما، فقالوا: كاهن: فقال:] الكاهن يصدق ويكذب، وما كذب محمد صلى الله عليه وسلم قط، فقال آخر: إنه مجنون، فقال الوليد: الجنون يخنق الناس وما خنق محمد قط، ثم قام الوليد فانصرف إلى بيته، فقال الناس: صبأ الوليد بن المغيرة، فدخل عليه أبو جهل فقال: ما لك يا أبا عبد شمس، هذه قريش تجمع لك شيئاً يعطونكه، زعموا أنك قد احتجت وصبأت، فقال الوليد: ما لي إليه حاجة، ولكني فكرت في محمد، فقلت: إنه ساحر لأن الساحر هو الذي يفرق بين الأب وابنه، وبين الأخ وأخيه، وبين المرأة وزوجها، فشاع ذلك في الناس، فصاحوا يقولون: محمد ساحر والناس مجتمعون، فوقعت الصيحةُ في الناس فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك اشتد عليه ورجع إلى بيته محزوناً، فتدثر بقطيفة فأنزل الله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ }.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9