الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوْاْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا ٱلضَّرَّآءُ وَٱلسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }

بين تعالى أنَّ تدبيره في أهْلِ القرى لا يجري على نَمَطٍ وَاحِدٍ وَإنَّمَا يُدَبِّرُهُم بما يَكُونُ إلى الإيمانِ أقرب فقال: { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيِّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ }؛ لأنَّ ورود النِّعمة [في البدن والمال] بعد البأساء والضَّرَّاءِ يدعو إلى الانْقِيَادِ، والاشتغال بالشُّكْرِ.

وفي " مكان " وجهان:

أظهرهما: أنَّهُ مفعول به لا ظَرْف، والمعنى: بَدَّلْنَا مكان الحال السَّيِّئَةِ [الحال الحسنة]، فالحسنةُ هي المأخوذة الحاصلةُ ومكان السيِّئةِ هو المتروك الذَّاهِبُ، وهو الذي تصحبه " الباء " في مثل هذا التركيب لو قيل في نظيره: بدَّلْتُ زيداً بِعَمْروٍ، فزيدٌ هو المأخوذ، وعمرو المتروكُ، وقد تقدَّمَ تحقيقُ هذا في البَقَرَةِ في موضعين:

أولهما:فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [البقرة: 59].

والثاني:وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ } [البقرة: 211].

فـ " مَكَانَ " و " الحَسَنَة " مفعولان إلاَّ أن أحدهُما وصل إليه الفعل بِنَفْسِهِ [وهو " الحَسَنَةُ " ]، والآخر بحذف حرف الجرِّ وهو " مكان ".

والثاني: أنَّهُ مَنْصُوبٌ على الظَّرْفِ، والتَّقديرُ: " ثمَّ بَدَّلْنَا [في] مكان السَّيِّئَةِ الحسنةِ " إلا أنَّ هذا ينبغي أن يُردَّ؛ لأن " بدَّل " لا بُدَّ له من مفعولين أحَدُهُمَا على إسقاط الباءِ.

والمراد بالحَسَنَةِ والسيِّئَةِ هاهنا: الشِّدَّةُ والرَّخَاءُ.

قال أهل اللُّغَةِ: " السَّيِّئَةُ: كلُّ ما يَسُوءُ صَاحِبَهُ، والحسنَةُ: كل ما اسْتَحْسَنَهُ الطَّبْعُ والعَقْلُ ".

قوله: " حَتَّى عَفَوا " " حتَّى " هنا غائيةٌ، وتقدير مَنْ قدّرها بـ " إلَى " فإنَّمَا يريدُ تَفْسِيرَ المعنى لا الإعرابَ؛ لأن حتَّى الجارَّة لا تُبَاشِرُ إلاَّ المضارع المنصوب بإضمار " أنْ "؛ لأنها في التَّقْديرِ داخلة على المصدر المُنْسَبِك منها، ومن الفعل، [وأمّا الماضي] فلا يطَّرِدُ حذف " أنْ " معه، فلا يقدّر معه أنَّها حرف جرٍّ داخلة على أن المصدريَّة، أي: حتَّى أن عفوا، وهذا الذي ينبغي أن يحمل عليه قول أبي البقاءِ: " حتَّى عَفَوْا أي: إلى أن عفوا ".

ومعنى " عَفَوا " هنا كَثُروا من عَفَا الشعْر إذا كَثُر، ومنه: " وأعْفُوا اللِّحَى " يُقَالُ: عَفَاه، وأعْفَاه ثلاثياً ورباعيّاً؛ قال زهيرٌ: [الوافر]
2530 - أذَلِكَ أمْ أقَبُّ البَطْنِ جَأبٌ   عَلَيْهِ مِنْ عَقِيقَتِهِ عِفَاءُ
وفي الحديث: " إذَا عَفَا الوَبَرُ وبَرَأ الدُّبُرُ فَقَدْ حَلَّت العُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرَ "؛ وأنشد الزَّمَخْشريُّ على ذلك قولَ الحُطَيْئَةِ: [الطويل]
2531 - بِمُسْتأسِدِ القُرْبَانِ عَافٍ نَبَاتُهُ   .....................
وقول لَبِيد: [الوافر]
2532 - ولَكِنَّا نُعِضُّ السَّيْفَ مِنْهَا   بأسْوُقِ عَافِيَاتِ الشَّحْمِ كُومِ
وتقدَّم تحقيقُ هذه المادّة في البقرة.

فصل في المراد من الآية

ومعنى الآية أنَّ الله - تعالى - أبدلهم مكان الباساء والضرَّاء الحسنة، وهي النِّعْمَةُ والسَّعَةُ والخَصْبُ والصِّحَّةُ.

" حتى عفوا " كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم، وقالوا من غرتهم وغفلتهم: { قَدْ مَسَّ آبَآءَنَا ٱلضَّرَّاءُ وَٱلسَّرَّاءُ } ، أي: هكذا كانت عادة الدَّهر قديماً لنا ولآبائنا، ولم يكن ذلك عقوبةً من اللَّهِ، فكُونُوا على ما أنتم عليه كما كان آباؤُكم، فإنَّهُم لم يتركوا دِينَهُم لما أصابهم من الضَّرَّاءِ.

السابقالتالي
2