الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَٱلَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ }

قيل: هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكَافِرِ بالأرْضِ الخيرة والأرض السَّبِخَة، وشبه نُزُولَ القرآن بنُزُولِ المطرِ، فشبّه المؤمن بالأرض الخيرةِ التي ينزلُ عليها المَطَرُ، فَتُزْهِرُ وتثمرُ، وشبَّهَ الكافر بالأرض السَّبخة، فهي وإنْ نزل عليها المطر لم تزهر ولم تثمر.

وقيل: المرادُ أنَّ الأرض السَّبخة يقلُّ نفعها وثمرها، ومع ذلك فإن صاحبها لا يهمل أمرها، بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعاً منه في تحصيل ما يليقُ بها من المَنْفَعَةِ، فمن طلبَ هذا النفع اليَسِيرَ بالمشَقَّةِ العظيمة، فلأن يطلب النَّفْعَ العَظيم الموعود به في الآخرة بالمَشَقَّةِ الَّتِي لا بد من تحصيلها في أداء الطَّاعاتِ أوْلَى.

قوله: " بإِذْنِ رَبِّهِ " يجوزُ أن تكون " الباء " سببية أو حالية وقرىء: " يُخْرِجُ نَبَاتَهُ " ، أي: يخرجه البلد وينبته.

قوله: " والَّذِي خَبُثَ " يريد الأرْضَ السَّبخةَ التي لا يخرج نباتها.

يقال: خَبُثَ الشَّيءُ يَخْبُثُ خُبثاً وخَبَاثَةً.

قال الفراء: قوله: " إلاَّ نَكِداً " فيه وجهان:

أحدهما: أن ينتصب حالاً أي عَسِراً مُبْطئاً. يقال: نَكِدَ يَنْكَدُ نَكَداً بالفَتْحِ، فهو نَكِدٌ بالكسر.

والثاني: أن ينتصب على أنَّهُ نَعْتُ مصدرٍ محذوفٍ، أي: إلا خروجاً نَكداً، وصف الخروج بالنَّكد كما يوصَفُ به غيره، ويؤيِّدُهُ قراءة أبي جعفر بن القَعْقَاعِ: " إلاَّ نَكَداً " بفتح الكاف.

قال الزَّجَّاج: وهي قراءة أهْلِ المدينةِ، وقراءة ابن مصرِّف: " إلا نَكْداً " بالسُّكُونِ وهما مصدران.

وقال مكيٌّ: " هو تخفيفُ نَكِد بالكَسْرِ مثل كَتْفٍ في كَتِف ".

يقال: رجل نَكِد، وأنْكَد، والمَنْكُود: العطاء النَّزْرُ وأنشدوا [في ذلك]: [السريع]
2495 - وأعْطِ مَا أعْطَيْتَهُ طَيِّباً   لا خَيْرَ في المَنْكُودِ والنَّاكِدِ
وأنشدوا: [المنسرح]
2496 - لا تُنْجِزُ الوَعْدَ إنْ وَعَدْتَ وَإنْ   أعْطَيْتَ أعْطَيْتَ تَافِهاً نَكِدَا
وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة وعيسى بْن عُمَرَ: " يُخْرَج " مبنيّاً للمفعول، " نَبَاتُه " مرفوعاً لقيامة مقام الفاعل، وهو الله تعالى.

وقوله: " والَّذِي خَبُثَ " صفة لموصوف محذوف، أي: والبلد التي خَبُثَ، وإنَّما حذف لدلالةِ ما قبله عليه، كما أنَّهُ قد حذف منه الجار في قوله: " بإِذْنِ ربِّهِ " ، إذ التقديرُ: والبلد الذي خَبث لا يخرج بإذن ربه إلا نَكِداً. ولا بدَّ من مضاف محذوف: إمّا من الأوَّلِ تقديرُهُ: ونبات الذي خبُث لا يخرج، وإمَّا من الثَّاني تقديره: والذي خَبُثَ لا يخرجُ نباته إلا نكداً، وغاير بين الموصُوليْنِ، فجاء بالأول بالألِفِ واللاَّمِ، وفي الثَّاني جاء بالذي، ووُصِلَتْ بفعل ماض.

قوله: " كَذَلِكَ " تقدم نظيره.

{ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ }.

قرىء: " يُصرِّفُ " أي يصرفها الله، وختم هذه الآية بقوله: { لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ }؛ لأنَّ الذي سبق ذكره هو أنَّهُ تعالى يحرك الرِّياح اللطيفة النافعة، ويجعلها سبباً لنزول المطر، الذي هو الرَّحمة، ويجعل تلك الرياح والأمطار سبباً لحدوث أنواع النَّبات النافعةِ، فمن هذا الوجهِ ذكر الدَّليل الدَّال على وجود الصَّانع، وعلمه، وقدرته، وحكمته، ونبَّه من وجه آخر على إيصال هذه النعمِ العظيمةِ إلى العبادِ، فمن الوَجْهِ الأوَّلِ وصفها بأنَّهَا آيات، ومن الوجْهِ الثَّانِي أنَّها نعم يجبُ شكرها وخصّها بكونها آيات للشَّاكرين؛ لأنَّهُم المنتفعون بها، كقوله:

السابقالتالي
2