الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْيَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }

لمَّا بيَّن في الآية الأولى أنَّ الذي حرَّموه ليس بحرام بيَّن في هذه الآية الكريمة أنواع المحرمات، فحرَّم أولاً الفواحش، وثانيها الإثم، واختلفُوا في الفَرْقِ بينهما، فقيل: الفواحشُ: عبارة عن الكبَائر؛ لأنَّ قبحها قد تَفَاحَشَ أي: تزايد، والإثم عبارة عن الصغائر، والمعنى: أنَّهُ حرَّم الكبائِرَ والصَّغائِرَ.

وطعن القاضي في ذلك بأن ذلك يقتضي أن يقال: الزِّنَا والسرقة والكفر ليس بإثْمٍ، وهو بعيد، وأقلُّ الفواحش ما يجب فيه الحدُّ، والإثم ما لا حدّ فيه.

وقيل: الفاحِشَةُ اسم للكبيرةِ، والإثمُ اسم لمطلق الذَّنْبِ سواء كان صغيراً أو كبيراً، وفائدته: أنَّهُ لمَّا حرّم الكبيرة أردفه بِتَحْرِيمِ مطلق الذَّنْبِ، لئلاَّ يتوهم أنَّ التحريم مقصورٌ على الكبيرة، وهذا اختيار القاضي.

وقيل: إنَّ الفاحشة وإن كانت بحسب اللُّغَةِ اسماً لكلِّ ما يتفاحش وتزايدُ في أمر من الأمور، إلاَّ أنَّهُ في العُرْفِ مخصوصٌ بالزِّنَا، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى في الزنا:إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [الإسراء: 32]، ولأنَّ لفظ الفاحشة إذا أطلق لم يفهم منه إلاَّ ذلك.

وإذا قيل: فلانٌ فحاشٌ، فُهم منه أنَّهُ يشْتِمُ النَّاسَ بألفاظ الوِقَاع؛ فوجب حمل لفظ الفاحِشَةِ على الزِّنَا، فعلى هذا يكون { مَا ظَهَرَ مِنْهَا } أي: الذي يقع منها علانية، و " مَا بَطَنَ " أي: الذي يقع منها سرّاً على وجه العشق والمحبَّة.

وقيل: { مَا ظَهَرَ مِنْهَا }: المُلامسة والمُعَانقة، و " مَا بَطَنَ " الدُّخول، وقد تقدَّم الكلام فيه في آخر السُّورة قبلها.

وما " الإثم " فالظاهر أنَّهُ الذَّنب.

وقيل: هو الخمرُ، قاله المفضلُ، وأنشد القائل في ذلك: [الطويل]
2455 - نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ أنْ نَقْرَبَ الزِّنَا   وأنْ نَشْرَبَ الإثْمَ الذي يُوجِبُ الوِزْرَا
وأنشد الأصمعي: [الطويل]
2456 - وَرُحْتُ حَزِيناً ذَاهِلَ العَقْلِ بَعْدَهُمْ   كأنِّي شَرِبْتُ الإثْمَ أو مَسَّنِي خَبَلْ
قال: وقد يسمى الخمر إثماً؛ وأنشد القائلُ: [الوافر]
2457 - شَرِبْتُ الإثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي   كَذَاكَ الإثْمُ يَذْهَبُ بالعُقُولِ
ويروى عن ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - والحسنِ البصري [أنهما] قالا: " الإثم: الخمر ".

قال الحسنُ: " وتصديق ذلك قوله:قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } [البقرة: 219]، والذي قاله الحُذَّاق: أنَّ الإثم ليس من أسماء الخَمْرِ ".

قال ابن الأنباري: " الإثمُ: لا يكون اسماً للخمر؛ لأنَّ العرب لم تسمِّ الخمر إثماً، لا في جاهليّة، ولا في الإسلامِ، وقول ابن عباس والحسن لا ينافي ذلك؛ لأنَّ الخمر سبب الإثم، بل هي معظمه، فإنَّهَا مؤجّجة للفتن، وكيف يكونُ ذلك وكانت الخمرُ حين نزول هذه السُّورةِ حلالاً؛ لأن هذه السُّورة مكيَّة، وتحريم الخمر إنَّمَا كان في " المَدِينَةِ " بعد " أحد " ، وقد شربها جماعةٌ من الصَّحابة يوم " أحدٍ " فماتوا شُهَدَاء، وهي في أجوافهم.

السابقالتالي
2