الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } * { وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيۤ أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } * { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ }

قوله تعالى: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ } الآية.

اللام في [قوله] لجهنَّمَ يجوزُ فيها وجهان:

أحدهما: أنَّها لامُ الصيرورة والعاقبة، وإنَّما احتاج هذا القائلُ إلى كونها لام العاقبة كقوله تعالى:وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56] فهذه علةٌ معتبرةٌ محصورة، فكيف تكون هذه العلة أيضاً؟ وأورد من ذلك أيضاً قول الشاعر: [الوافر]
2628 - لِدُوا لِلْمَوْتِ وابْنُوا لِلْخَرابِ   ......................
وقول الآخر: [الطويل]
2629 - ألاَ كُلُّ مَوْلُودٍ فَلِلْموتِ يُولَدُ   ولَسْتُ أرَى حيًّا لِحَيٍّ يُخَلَّدُ
وقول الآخر: [الطويل]
2630 - فَلِلْمَوتِ تَغْذُو الوَالِداتُ سخَالَهَا   كَمَا لِخرابِ الدُّور تُبْنَى المَسَاكِن
الثاني: أنها للعلة، وذلك أنَّهُم لمَّا كان مآلهم إليها، جعل ذلك سبباً على طريق المجاز. وقد ردَّ ابنُ عطيَّة على من جعلها لامَ العاقبة، فقال: وليس هذا بصحيح ولام العاقبة إنَّما تُتَصَوَّرُ إذا كان فعل الفاعل لم يُقْصَدْ مصيرُ الأمر إليه، وأمَّا هنا فالفعلُ قُصِد به ما يصير الأمر إليه من سُكْناهم لجهنم واللاَّم على هذا متعلقة بـ ذَرَأنَا، ويجوز أن تتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حال من كَثِيراً؛ لأنه في الأصل صفة لها، لو تأخَّرَ، ولا حاجة إلى ادِّعاءِ قلب، وأنَّ الأصل: { ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ لِكثِيرٍ }؛ لأنَّهُ ضرورةٌ أو قليلٌ، و " مِنَ الجِنِّ " صفة لـ " كَثِيراً ".

فصل

ومعنى { ذَرَأْنَا } خلقنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس، أخبر الله تعالى أنه خلق كثيراً من الجن والإنس للنار، وهم الذينَ حقت عليهم الْكلمة الأزليَّة بالشّقاوة، ومن خلقه الله لجهنَّمَ، فلا حيلة له في الخَلاصِ منها.

قالت عائشةُ: " أدرك النّبيُّ صلى الله عليه وسلم جنازة صبيٍّ من صبيان الأنْصَار، فقالت عائشةُ له: طُوبى لَهُ عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الجَنَّةِ. فقال صلى الله عليه وسلم: وما يدريكِ؟ إنَّ الله خَلَقَ الجَنَّةَ وَخلَقَ لَهَا أَهْلاً وَهُمْ في أصْلابِ آبَائِهِمْ وخَلَقَ النَّارَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلاً وهُمْ في أَصْلابِ آبائِهِمْ ".

فصل

هذه الآية أيضاً تَدُلُّ على مسألة خلق الأعمالِ لأنَّهُ تعالى صرَّحَ بأنَّهُ خلق كثيراً من الجن والإنس لجهنم ولا مزيد على بيان كلام اللَّهِ، وأيضاً أنه لمَّا أخبر عنهم أنَّهُم من أهل النَّارِ، فلو لم يكونوا من أهل النَّارِ انقلب علم اللَّهِ جهلاً، وخبره الصِّدق كذباً، وكل ذلك محال ومن علم كون الشَّيءِ محالاً امتنع أن يريدهُ، فامتنع أن الله تعالى يريد أن لا يدخلهم النار بل يجب أن يريد أن يدخلهم النار، وذلك هو الذي دَلَّ عليه لفظ الآية، وأيضاً إنَّ القادرَ على الكُفْرِ إن لم يقدر على الإيمان، فالذي خلق فيه القدرة على الكُفْرِ فقد أرادَ أن يدخله النار، وإن كان قادراً على الكفر والإيمان معاً؛ امتنع رجحان أحد الطَّرفين على الآخر لا لمرجح وذلك المرجح إن حصل من قبله لزم التسلسل، وإن حصل من قبل اللَّهِ تعالى، فهو المرادُ.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7