الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُفْتَرِينَ } * { وَٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوۤاْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلْغَضَبُ أَخَذَ ٱلأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ }

قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ } الآية. المفعول الثاني من مفعولي - الاتِّخاذِ - محذُوف، والتقديرُ، اتَّخذوا العجل إلهاً ومَعْبُوداً، يدلُّ على هذا المحذوف قوله تعالى:فَقَالُواْ هَـٰذَآ إِلَـٰهُكُمْ وَإِلَـٰهُ مُوسَىٰ } [طه: 88] وللمفسرين ههنا طريقان: أحدهما: المراد بالذين اتَّخَذُوا العجل قوم موسى، وعلى هذا فيه سؤال هو أن أولئك القوم تَابَ اللَّهُ عليهم: بأن قتلوا أنفسهم في معرض التَّوْبَةِ على ذنبهم، وإذا تاب الله عليهم فكيف قيل في حقِّهم: { سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا }؟ ويُجاب عنه بأن ذلك الغضب إنَّما حصل في الدُّنْيَا لا في الآخرة، وهو أنَّ اللَّهَ تعالى أمرهم بقتل أنفسهم والمُرَادُ بقوله: { وَذِلَّةٌ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا } هو أنَّهُمْ قد ضَلُّوا فَذُلُّوا.

فإن قيل: السِّينُ في قوله سَيَنالُهُمْ للاستقبال، فكيف يحمل هذا على حكم الدُّنيا؟ فالجواب: أنَّ هذا حكاية عَمَّا أخبر اللهُ به موسى حين أخْبَرَهُ بافتتان قومه، واتِّخاذهم العِجْلَ، وأخبره في ذلك الوقت أن سَيَنالُهُمْ غضبٌ من ربهم وذلَّةٌ، فكان هذا الكلامُ سابقاً على وقوعهم في القَتْل وفي الذِّلَّة فَصَحَّ هذا التَّأويل.

الطريق الثاني: أنَّ المُرادَ بالذين اتَّخَذُوا العجلَ أبناؤهم الذين كانوا في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فيه وجهان: أحدهما: أنَّ العرب تعير الأبناء بقبائح أفعال الآباء كما يفعل ذلك في المناقبِ؛ يقولون للأبناء فعلتم كذا وكذا، وإنَّمَا فعل ذلك أسلافهم كذلك ههنا.

قال عطيَّةُ العوفيُّ: أراد بهم اليهود الذين كانوا في عصر النَّبي صلى الله عليه وسلم، عَيَّرهُم بصنع آبائهم ونسبه إليهم، ثمَّ حكى عليهم بأنَّهُ: { سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ } في الآخرةِ: { وَذِلَّةٌ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا } أراد: ما أصَابَ بني قريظة والنَّضير من القتل والجلاء.

وقال ابنُ عبَّاسٍ: هي الجزية.

الوجه الثاني: أن يكون التقديرُ: { إنَّ الذينَ اتَّخَذُوا العِجْلَ } أي الذين باشرُوا ذلك سَيَنالُهُمْ أي: سينال أولادهم، ثم حذف المضاف لدلالة الكلام عليه.

ثمَّ قال: { وَكَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُفْتَرِينَ } أي: ومثل ذلك النِّيل والغضب والذِّلّة " نَجْزِي المُفْترينَ " الكاذبين.

قال أبُو قلابة: " هو واللَّه جزاء كلِّ مفترٍ إلى يوم القيامة أن يذلَّه اللَّهُ ".

وقال سفيان بنُ عيينة: " هذا في كل مبتدع إلى يوم القيامة ".

وقال مالكُ بْنُ أنسٍ: " ما من مُبْتَدع إلاَّ ويجدُ فوق رأسه ذِلَّة ".

قوله: { وَٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ } مبتدأ وخبره قوله إنَّ ربَّكَ إلى آخره. والعائد محذوف، والتقدير: غفورٌ لهم ورحيم بهم، كقوله:وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } [الشورى: 43] أي منه.

قوله: مِن بَعْدِهَا يجوز أن يعود الضمير على السّيِّئاتِ، وهو الظاهر، ويجوز أن يكون عائداً على التوبة المدلول عليها بقوله: " ثُمَّ تَابُوا " أي: من بعد التوبة.

السابقالتالي
2 3