الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّآ أَلْقَوْاْ سَحَرُوۤاْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ }

قوله: { قَالَ أَلْقَوْاْ } وفيه سؤالٌ: وهو أنَّ إلقاءهم كان سحراً ومعارضة للمعجزة، وذلك كفر، فكيف يجوز لموسى - عليه الصلاة والسلام - أن يأمُرَهُم به؟.

والجوابُ من وجوه:

أحدها: أنَّهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إنما أمرهم بشرط أنْ يعلموا في فعلهم أن يكون حقّاً، فإذا لم يكن كذلك فالأمرُ هناك كقول القائل لغيره: اسقني الماء من الجرَّةِ، فهذا الكلامُ إمَّا أن يكون بشرط حصول الماء في الجرَّةِ، فأمَّا إذا لم يكن فيها ماء فلا أمر ألْبَتَّةَ كذلك هاهنا.

قال الفرَّاءُ: " المعنى: ألْقُوا إن كنتم مُحِقِّين، وألقوا على ما يصح ويجوز ".

وقيل: تهديدٌ لهم أي: ابتدأوا بالإلْقَاءِ فسترون ما يحل بكم في الافتضاح.

وثانيها: أنَّ القوْمَ إنَّمَا جاءُوا لإلقاء تلك الحبال والعصي، وعلم موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - أنَّهم لا بد وأن يفعلوا ذلك وإنما وقع التَّخيير في التَّقْدِيم والتَّأخير، فعند ذلك أذن لهم في التقديم ازدراءً لشأنهم، وقلَّة مبالاته بهم وثقة بما وعده اللَّهُ به من التَّأييد، وأنَّ المعجزة لن يغلبها سحر أبداً، ولأنَّ الأمر لا يستلزمُ الإرادة.

وثالثها: قوله عليه السلامُ كان يريدُ إبطال ما أتوا به من السحر وذلك لا يمكن إلا بتقديمهم فأذن لهم في الإتيان بذلك السحر ليمكنه الإقدام على إبطاله مثل من يريد سماع شبهة ملحد ليجيب عنها ويكشف عن ضعفها وسقوطها فيقول له: هات وقل واذكرها، وبالغ في تقريرها، ومراده من ذلك أنه إذا أجاب عنها بعد هذه المبالغة فإنَّهُ يظهر لكل أحدٍ ضعفها وسقوطها، فكذا هاهنا.

وقال الفرَّاءُ: في الكلام حذفٌ، والمعنى: قال لهم موسى: إنكم لن تغلبوا ربَّكم، ولن تبطلوا آياته، وهذا من معجزات القرآن الذي لا يأتي مثله في كلامِ الناس ولا يقدرون عليه يأتي اللفظ اليسير بجميع المعاني الكثيرة.

وإنما أمرهم تعجيزاً لهم وقطعاً لشبهتهم واستبطالهم، ولئلا يقولوا: لو تركنا نَفْعَلُ لَفَعَلْنَا بمعانٍ كثيرة.

قوله: { فَلَمَّآ أَلْقَوْاْ سَحَرُوۤاْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ }.

قال القاضي: " لو كان السِّحْرُ حقّاً لكانوا قد سحروا قلوبهم، لا أعينهم، فثبتَ أنَّ المُرَاد أنَّهم تخيَّلُوا أحوالاً عجيبة مع أن الأمر في الحقيقة ما كان على وفقِ ما تَخَيَّلُوهُ ".

وقال الواحديُّ: " بل المرادُ: سَحَرَوا أعْيُنَ النَّاسِ، أي قلبوها عن صحَّةِ إدراكها، بسبب تلك التَّمْوِيهاتِ ".

وقيل: إنهم أتوا بالحِبالِ والعصيِّ ولطَّخوا تلك الحِبالَ بالزِّئْبَقِ وجعلوا الزِّئبقَ في دواخل تلك العصي، فلمَّا أثر تَسْخين الشَّمْسِ فيها تحركت والتوى بعضها على بعض، وكانت كثيرةً جداً فتخيَّل النَّاسُ أنَّها تتحرَّك وتلتوي باختيارها وقدرتها.

قوله تعالى: { وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ } يجوز أن يكون استفعلَ فيه بمعنى أفعل أي: أرهبوهم، وهو قريب من قولهم: قرّ واستقرّ، وعظّم واستَعْظَمَ وهذا رأي المبرِّدِ.

السابقالتالي
2