لما طلب فرعون من موسى إقَامَةِ البَيِّنَةِ على صحَّةِ دعواه، بين الله تعالى أنَّ معجزته كانت قلب العصا ثعباناً، وإظهار اليد البيضاء. " فإذَا " فجائية وقد تقدَّم أنَّ فيها مذاهبَ ثلاثةً: ظرف مكان، أو زمان، أو حرف. وقال ابن عطية هنا: " وإذَا ظرف مكان في هذا الموضع عند المبرِّد من حيثُ كانت خبراً عن جثة، والصَّحيحُ الذي عليه النَّاسُ أنَّهَا ظَرْفُ زَمَانٍ في كلِّ مَوْضِعٍ ". قال شهابُ الدِّين: " والمشهورُ عند النَّاسِ قول المبردِ، وهو مذهب سيبويه ". وأمَّا كونها زماناً فهو مَذْهَبُ الرِّيَاشي، وعُزِيَ لسيبويه أيضاً. وقوله: " من حيث كانت خبراً عن جثَّة " ليست هي هنا خبراً عن جُثَّة، بل الخبرُ عن " هي " لفظ " ثُعْبَان " لا لَفْظ " إذا ". والثُّعْبَانُ هو ذَكَرُ الحيَّاتِ العظيم، واشتقاقُه من ثَعَبْتُ المكان أي: فجَّرْتُه بالمَاءِ، شُبِّه في انسيابه بانْسِيَابِ الماء، يقال: ثَعَبْتُ الماءَ فجَّرْتُه فانْثَعَبَ. ومنه مَثْعَبُ المطر، وفي الحديث: " جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَجَرْحُهُ يَثْعَبُ دماً ". فصل فإن قيل إنَّهُ وصفها هنا بكونها ثُعْبَاناً، وهو العظيمُ الهائل الخلق، وفي موضع آخر يقول:{ كَأَنَّهَا جَآنٌ } [النمل: 10]، والجان من الحيَّاتِ الخفيف الضّئيل الخلق، فكيف الجَمْعُ بين هاتين الصّفتين؟ وقد أجاب الزَّمَخْشَرِيُّ في غير هذا المكان بجوابين: أحدهما: أنَّهُ يجمع لها بين الشيئين: أي كبر الجُثَّةِ كالثُّعْبَانِ وبين خفَّةِ الحركة، وسرعة المشي كالجَان. والثاني: أنَّها في ابتداء أمرها تكون كالجَان، ثمَّ يتعاظمُ ويتزايد خلقها إلى أن تصير ثُعْبَاناً. وفي وصف الثُّعبانِ بكونه مُبيناً وجوه: أحدها: أنُّهُ تمييز ذلك عمَّا جاءت به السَّحرَة من التمويه الذي يلتبسُ على من لا يعرف سببه. وثانيها: أنَّهم شاهدوا كونه حيَّةً، فلم يشتبه الأمر عليهم فيه. وثالثها: أنَّ الثَّعبان أبان قول موسى عليه السلام عن قول المدعي الكاذب.